في بلد الطوائف والمذاهب، تذوب قضايا المواطنين ومشاكلهم في بحر الخلافات السياسية والانقسامات المذهبية، قلّة لا يزالون يرون أن الشارع منفذ للصراخ في وجه السلطة، وهؤلاء القلّة يقلّون تدريجاً، وفي مرحلة التناقص هذه، تختفي إطارات نقابية كانت هي المحرك الأساسي للعمال، فقد تنحّت قيادة الاتحاد العمالي العام عن المشاركة في سلسلة من النشاطات المطلبيّة خلال الأشهر السابقة، وكان آخرها اعتصام، نفذ أمس، يقول المنطق إن الاتحاد العمالي كان يجب أن يكون فيه مبادراً...
رشا أبو زكيليسوا كثراً، إنهم بضع مئات، تتّسع لهم بضعة أمتار في منطقة أثرياء سوليدير، تحدّهم السرايا الحكومية من الشمال، ضريح الرئيس الأسبق رفيق الحريري من الجنوب، المجلس النيابي من الغرب، وعلى مدارهم يلتفّ مئات من العسكريين. هنا كل الحدود معادية للفقراء، وهنا يمكن أن تُرفع الصرخة في وجه السياسات السلطوية للحكومات المتعاقبة، التي أدت الى خلق فجوة قسرية بين فقراء كثر، وقلة من الأغنياء...
عنصر الشباب طاغ، ومن شاب شعره حمل لافتة تحمل هي الأخرى همومه المعيشية. هنا قادة لنقابات عمالية، إعلاميون، مصوّرون، عمال، طلاب، أساتذة، موظفو مصارف، سائقون عموميّون، ففي اعتصام اللقاء النقابي الشعبي كان هناك تمثيل لمعظم النقابات المعنية بعنوان الاعتصام «ليس للرغيف هوية، وما مات شعب لديه قضية»... باستثناء قيادة الاتحاد العمالي العام، فهذه القيادة فضلت أن تستمر في «نضال المكاتب»، مرابضة في مبناها على كورنيش النهر، رغم أن المبنى زجاجي ويمكن من خلاله رؤية منطقة كرم الزيتون، حيث بيوت الفقراء تتراكم كجبل باطون بعضها فوق بعض، إلا أنه أمس، غطّت ستائر غرفة القيادة هذا المشهد، وانتصرت «التعليمات» السياسية كما العادة، فلم يخرج بيان الاتحاد العمالي العام عن لغة التهديد والوعيد بالتحرك ليس اليوم ولا غداً ولا بعده... بل في عام 2011!
صوت في وجه السلطة
ثلاثة تفاصيل كانت لافتة، عبارة «فلنرفع الصوت عالياً في وجه السلطة، فلنقل لهم: كلكم شركاء في تقاسم الحصص والنفوذ والصفقات وحماية الاحتكارات»، صوت مارسيل خليفة «مدري كيف حاسس إني زعلان»، ويد جنان التي ترتفع حماسة عند كل شعار يطلقه الشباب وعند كل كلمة تعبّر ولو بصيغة ملطّفة عن وضع الشباب الذي ينتظر تصديره الى دولة ما... يرى رئيس الاتحاد الوطني للنقابات كاسترو عبد الله في كلمته أنه كلما اشتد الصراع السياسي بين أطياف هذه السلطة، أصيبت الطبقة العاملة والكادحة وذوو الدخل المحدود وكل الفقراء الذين يتزايدون كل يوم بفضل وفعل سياسة «التطنيش» المعتمدة من كل أطياف السلطة وبكامل أطرافها عن معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتمادية والتي وصلت إلى ذروتها من خلال رغيف الخبز (الناشف والمسروق) الذي لم يعد بمقدور الطبقة العاملة والشعب الحصول عليه. ووجد عبد الله وحدة ما في حالة الشعب والسلطة، ففي المعادلة اللبنانية، لم يتوحّد المواطنون في وجه من يفقرهم، بل «توحدت سياسة سلطة المحاصصة ضد شعبها وضد الطبقة العاملة وضد الشباب، فقط هذه الأولويّة عندكم جميعاً، وهموم الناس والوطن في مهبّ الريح بفضل سياستكم». فالطبقة العاملة في لبنان تعيش أصعب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتتوالى أزماتها وإرهاقها بالضرائب من جهة، وتجاهل مطالبها وحقوقها بالعمل والأجر والسكن والطبابة والتعليم والتأهيل بفعل استمرار نهج الحكومات المتعاقبة، وآخرها «اتحاد حكومة التحاصص الطائفي» في تبنّي سياسات اقتصادية واجتماعية تقوم على زيادة الضرائب والرسوم من الـTVA إلى زيادة أسعار البنزين والمحروقات، وخاصة الآن في فصل الشتاء، ورفع أسعار للمواد الغذائية وآخر «مآثر» السلطة امتدت إلى رغيف الخبز. إنها سياسة الحكومات المتعاقبة، يقول عبد الله، التي أدت إلى إغراق البلاد في مديونية ذات مستويات مرتفعة جداً، إضافة إلى السياسة الضريبية المعتمدة على الضريبة غير المباشرة التي تصيب معظم الشعب اللبناني من عمال وفلاحين وذوي الدخل المحدود والفقراء وكل فئات الشعب وتعفي الرساميل الكبيرة والشركات التابعة لها من هذه الضرائب، في ظل الإمعان بالتغاضي عن الهدر والفساد المستشري في كل الإدارات ومؤسسات القطاع العام بهدف إفلاسه وتبرير بيعه للشركات الخاصة، بعد إيهام الرأي العام بأنه لا سبيل للإنقاذ أو الإصلاح في إدارة القطاع العام إلا ببيعه وخصخصته.
قرار الهجرة لم يعد صائباً
وفي الاعتصام، كان اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني حاضراً كالعادة، وتوجّه أمينه العام علي متيرك الى العمال والطلاب وكل من يرزح تحت خط الفقر الموحش، بصرخة اللقاء الشعبي النقابي في وجه السلطة الجائرة، ورأى أن هذه السلطة دأبت في حكوماتها المتعاقبة منذ عام 1992 على ضرب الاقتصاد الوطني ورهنه لسياسات الصندوق والبنك الدوليين وخدمة لمصارف ذوي النفوذ فأفرغت المؤسسات وأفسدت الإدارات وضربت الإنتاج في الصناعة والزراعة، حتى بات لبنان يستورد كل شيء ولا يصدر سوى شبابه الذين يمثّلون 41 في المئة من القوة العاملة، كما يمثّلون القوة الإنتاجية، فباتوا يتسكعون أمام أبواب السفارات بحثاً عن لقمة العيش التي لم يجدوها في وطنهم الذي دافعوا عنه، واستشهد بعضهم في سبيل تحرير الأرض على أمل تحرير الإنسان. ودعا متيرك الى النضال من أجل رغيف الخبز «الذي سلبه وزير الاقتصاد وزملاؤه في الحكومة غير الموقرة»، وإلى السؤال عن «أغلى فاتورة كهرباء في العالم، في وقت أن معظم المواطنين يعيشون تحت جنح الظلام، وإلى الوقوف في وجه الضرائب على البنزين في بلدٍ الغاز لن يبدأ التنقيب عنه. ودعا طلاب لبنان وطلاب الجامعة الوطنية الى الحفاظ على هذا الصرح «فلا تدعوهم يسلبوه منكم، فلندافع عنه أمام الجامعات والدكاكين الخاصة». ورأى متيرك أن البحث عن فرصة للعمل في الخارج وقرار الهجرة لم يعد صائباً، إذ لا بد من أن يعمل الشباب اليوم على التغيير ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، وسارقي المال العام وأموال الناس، والعابثين بكراماتهم، والجالسين في قصورهم على حساب بيوت التنك. وقال متيرك «فليرفع الصوت عالياً، ليحاكموا جميعاً كشهود زور على إفقار الناس وسرقة أموالهم، كي نبقى ندافع عن رغيف الخبز المجبول بعرق الكادحين». وقد جمع الاعتصام كلمات لفاعليات نقابية وإعلامية وحقوقية، دعت الى وقف ممارسات السلطة المتعارضة مع مصالح الشعب اللبناني، وتحقيق مطالب العمال، ووقف نزف هجرة الشباب...
%12نسبة التضخم في عام 2010، في مقابل تقلّص فرص العمل وازدياد معدلات البطالة إلى ما يزيد على 20 في المئة، إضافة الى ضمور القطاعات المنتجة من صناعة وزراعة وتراجعها لمصلحة تحكم الاحتكارات المالية وشيوع سوق المضاربات المالية والعقارية.
توقعات «العمالي» في 2011بعد اجتماع عقدته هيئة مكتب المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي العام، أمس، أصدرت بياناً جاء فيه «فلتكن مطالب الاتحاد العمالي لـ2011: وجوب تصحيح الأجور أصبح واقعاً حتمياً بعد ازدياد نسبة التضخم إلى سقوف مرتفعة في العامين الأخيرين، وأصبحت أسعار السلع والخدمات الأساسية والضرائب والرسوم فوق طاقة العمال وأصحاب المداخيل المحدودة. إن توفير التوازن المالي في صندوق الضمان الاجتماعي بزيادة نسبة الاشتراكات أصبح أمراً ملحّاً للمحافظة على تقديمات الصندوق وتمكينه من القيام بدوره كأهم مظلّة اجتماعيّة للعمال والمستخدمين».
العدد ١٢٩٧ الاربعاء ٢٢ كانون الأول ٢٠١٠