عمر معاناتنا في لبنان -مواطنين ولاجئين ومقيمين- من عمر هذا النّظام الّذي لم يصمد إلّا عقودًا ثلاث، خلالها مرّروا كذبة ال١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد بسلاسة، خلالها همّشوا مستشفيات الناس العامّة ورفعوا سعر دوائهم وأهملوا مدارسهم الرسمية وجامعتهم الوطنيّة لتكبر على حساب تعليمهم وطبابتهم مستشفيات القطاع الخاص وجامعاته، وليراكم أصحابها وإداريوها الثروات على حساب النّاس. ثلاثون عامًا، سرقوا منّا بحرنا وجبالنا وضفاف أنهارنا وسهولنا، وشيّدوا في أراضينا الأوتيلات والمنتجعات السياحية والمطاعم والعقارات غير المتاحة للفقراء، لا بغاية السياحة، ولا السكن، شيّدوها للأثرياء، للمتولين، للسياح المزعومين، لرأسماليي الخليج وسوريا والأردن، وتركوا لنا الضّواحي، وأحزمة البؤس وتركوا للاجئين المخيّمات والتوسع العمراني العامودي. ثلاثون عامًا استدانوا خلالها من المصرفيين بفوائد عالية، فراكموا من قوة عمل الناس ثرواتٍ للمصرفيين، وإن أضطروا للتقشف، تقشّفوا- وما يزالون- من الخدمات المقدمة للناس الّتي تكاد تنعدم. ثلاثون عامًا من التقسيم الطبقي والطائفي ومن فضّ صفوف العمّال والسيطرة على نقاباتهم، ثلاثون عامًا من سياسات إفقار الملايين من أجل إثراء العشرات، ثلاثون عامًا من حرمان الناس حاجاتهم الأساسية وتهجيرهم، وما كانت الثلاثين عامًا الّتي مضت على الحال المذكور آنفًا إلّا لتنتج الخراب الحاصل الآن.
ما نشهده اليوم من اتساع في الفجوة الطبقية وانحسار الطبقة الوسطى، وما نشهده من تهالك في القطاع الصحي ومن تقشف في القطاع العام، إضافةً إلى إخفاء واحتكار السلع الأساسية الّتي يحتاجها الناس - والتي باتوا عاجزين أصلًا عن الحصول عليها- هو العاصفة الّتي أتت بعد ثلاثين عامًا من الهدوء المزيّف. إنّ ما تمر به البلاد اليوم لا يمكن اختزاله بمصطلح "أزمة"، هو انهيار سيغيّر معالم المجتمع، سيحدث تحويلًا في شكله، إلى الأسوأ إن لم تتمّ إدارته ضمن خطة واضحة تنتشل الأجيال القادمة من أسوأ ظروفٍ يمكن أن يعيش إنسان في ظلّها، أو إلى الأسوأ، كما يشير أداء النظام بكلّ أركانه.
انهيار في العملة الوطنيّة، تضخّم مالي، تهالك القطاع المصرفي، بروز الوجه القمعي للنظام اللبناني الّذي لجأت قواته العسكرية إلى الرصاص الحي في بعض المناطق لفضّ الاحتجاجات وقمعها، التناقضات الهائلة في قلب النظام اللبناني الّتي جعلته عاجزًا تمامًا عن تشكيل حكومة حتى من داخل المنظومة نفسها، هي كلّها مؤشرات للانهيار، الإنهيار الّذي تسببت فيه السلطة متواطئة مع المصرف المركزي والمصارف والتجار، والّذي يدفع ثمنه الشعب حياته وتعليمه وصحته وقوّة عمله.
وفي حين يصل النّظام اليوم إلى نقطة انهياره، لا بدّ أن يكون الفقراء عصب التّغيير الآتي، هم الّذين تضرّروا لعقود ومايزالون، هم الذين دفعوا لعقود أبسط حقوقهم البديهية ثمنًا لاستمرار البرجوازيات اللبنانية، والأنظمة الّتي لا تنصف الفقراء، الّتي لا تغيّر حالهم، الّتي لا تعيد لهم أموالهم المسروقة منهم، هي أنظمة إلى زوالٍ بلا شك، وهي أنظمة تُبنى على أنقاضها أنظمة الحريات الحقيقية، غير المزيفة، الّتي لا تراكم فيها قلة قليلة من الناس ثروات على حساب الأغلبية.
في ظل انهيار النظام، تظهر حاجتنا للتنظيم في وجهه، عمالًا ومزارعين وطلبة ولاجئين، نبني هيكلًا لنا على أنقاض ذاك الّذي انهار، نسير مع التاريخ نحو الحرية والعدالة والاجتماعية والتقدّم.