نصر حامد أبو زيد: لا إصلاح إلا بنقد الفكر الدّيني

 من الواضح أنّ المفكّر المصري نصر حامد أبو زيد قطع شوطاً واسعاً من القراءة النقديّة للتراث، وهو اليوم في منطقةٍ متقدّمة من إعادة تقديم مكوّنات هذا التراث وبما يتناسب مع العصر والثقافة الراهنة. لكنّ صاحب ''نقد الفكر الديني'' الذي وصلَ إلى الجامعة في قصّة كفاح مؤثرة؛ لم يكن يدور في خلده أنّ الملاحقات ستكون طابعاً ملموساً في مقاطع مختلفة من مسيرته الفكريّة والعلمية. منعه من الدّخول إلى الكويت لن يكون الشّاهد الأخيرة على ترصُّد إسلاميين ''حرفيين'' للباحث الذي أعادة قراءة النصّ المقدس من خلال الواقع الثقافي الذي ظهر فيه. كيف تبدو - وسط ذلك - العلاقة الوجدانية والثقافية التي يعيشها المثقف المفكّر وفي ظلّ مثل هذه السياقات الضيقة، والظروف القاسية التي قد تمنعه من التفكير الحر وتُصادر عليه هذا الحقّ؟! لا يُقــدِّم أبو زيد نفسه، في معرض الإجابة على هذا السؤال، وكأنه نموذج لا مثيل له. بتأمّل قليل، يتأكّد أن هذا الكلام محض حقيقة، وليس تواضعاً أو هروباً من الذات. * كيف يمكن للمفكّر أن يخترق الضغوط المحيطة ويُقدِّم خروجاً نقدياً صارماً؟ ألا يبدو الأمر - بوجهٍ من الوجوه - تجاوزاً للطبيعة وتحدّياً خارقاً للعادة؟! - ليس في الأمر خرق للعادة ولا تجاوز للطبيعي. هذه السّياقات الضيقة والضغوط تمثل تحدّياً وليس عائقاً. الفارق بين التحدّي والعائق أن الأوّل يستحثّ الهمة ويُنشِّط الإرادة بشرط أن يكون العمل الفكري والبحثي غاية وليس وسيلة. حين تكون المعرفة وسيلة للوجاهة الاجتماعية أو الثقافية؛ يتكون للمزاول لهذا العمل علاقات يحرص على عدم المساس بها. وهنا يفسح المجال للمساومة والمراوغة. ليس أقوى من المحارب الذي ليس لديه ما يخسره. تاريخ التفسير هو تاريخ صراع * يُمثّل مشروعك في قراءة النصّ القرآني الخطوة التأسيسيّة لمجمل عملك التجديدي (الإصلاحي من جانبٍ آخر)، وقد أُحيط هذا المشروع - منذ بداياته - بأكثر من مواجهة وبعض النقد. ومن ذلك: إغراق الوحي القرآني في التاريخيانيّة بسبب الإصرار العارم على مقولة السياق المحيط بالنص. كيف تعلّقون على ذلك؟ - هذه كوْمة من الأسئلة لا سؤال واحد. الإغراقُ في التاريخانية وصف غير صحيح؛ فالتاريخية لا تعني الزّمانية، للأولى صيرورة الاستمرار بالتحوّل، وللثانية الانخناق في اللّحظة. كلّ شيء يبدأ في التاريخ، والله وحده يقف خارج التاريخ حسب منطق الإيمان، وهذا لا يمنع تطوّر المفاهيم والتصوّرات المتعلقة بالألوهة بين العقائد المختلفة وداخل العقيدة الواحدة. القرآنُ كما نعرفه له تاريخ في سياق ثقافة العالم، وله تاريخ في سياق ثقافة شبه الجزيرة العربية، وله تاريخ في ثقافة الحجاز ومجتمعات الحجاز. درْس هذا التاريخ وفهمه أمر لا غناء عنه لفهم القرآن في هذه السّياقات. القرآنُ نفسه يعكس هذه السّياقات في بنيته وفي أسلوبه وفي لغته. لكن للقرآن تاريخ ممتد من القرن السّابع الميلادي حتى يوم الناس هذا، وهذا هو تاريخ تطوّر المعنى واتساع محيط الدّلالة بفضل البشر الذين آمنوا به والذين لم يؤمنوا به كذلك. تاريخ التفسير هو تاريخ جدل وصراع وتنافس بين جماعات الإيمان من جهة، وبينهم وبين جماعات لها إيمان مغاير من جهة أخرى. * من الإشكالات أيضاً القول بعدم التكامليّة (أو الشموليّة) بسبب نقص الإطلاع على التراث القرآني الإسلامي (هناك منْ يقول بأنكم غير مطّلعين على قرآنيّات المدرسة الشيعية الإمامية). وكذلك عدم التراكمية في الإنجاز البحثي واستخلاص النتائج (هناك منْ يعيب عليكم إهمال بعض المشروعات ذات الصّلة بصميم عملكم البحثي، كما الحال مع مشروع محمد عابد الجابري الجديد في فهم القرآن وتفسيره). ما تعليقكم على ذلك؟ - لا يزعم أحد أنه استوعب التراث بقضّه وقضيضه، وأعترفُ أنني في مناطق تراثية كثيرة اعتمد على الأكثر تخصّصاً في هذه المناطق. قراءتي في التراث الشّيعي ليست قليلة، لكن التراث الشّيعي ليس مجال اختصاصي الأساسي. ليس هذا تواضعاً، فالزعم بالإحاطة المعرفية نوع من الغرور لا أحبّه لنفسي ولا لغيري. أما جهود الأستاذ الجابري فأنا ملمّ بها إلماماً تامّاً. في مجال الدّراسات القرآنيّة؛ يسعى الأستاذ الجابري سعياً مشكوراً لتبسيط المعقّد، ويتوخّى تجنّب الدّخول في المناطق الوعرة. * وما هي قصّة مشروعكم الجديد المعنون بالمعهد الدولي للدراسات القرآنية؟ - معهد الدّراسات القرآنية مشروع يحتاج إليه الفكر الإنساني المعاصر، ولا توجد جامعة واحدة تخصص معهداً للدّراسات القرآنية. كثيرٌ من جامعات العالم الإسلامي تُدَرّس القرآن (بمعنى تعلمه) ولا تَدْرسه (بمعنى الفحص العلمي). في جامعات أوروبا يمكن أن نجد مقرّراً لدراسة القرآن ضمن برنامج للدّراسات الدّينيّة، وهذا لا يكفي في السّياق الدّولي الذي صار فيه القرآن أداة للحجاج والجدل بين الكارهين للإسلام والمدافعين عنه. مهمة المشروع تأهيل باحثين متخصّصين. يتبنّى المشروعُ مؤسسة غير ربحية اسمها ''الحرية للجميع''، شارك في إنشائها وتبنى فكرة المعهد المرحوم عبدالرحمن واحد الرئيس الأسبق لأكبر جمعية دينية في إندونيسيا (نهضة العلماء) وأول رئيس جمهورية لأندونيسيا بعد سقوط نظام سوهارتو. يساند المؤسسة ويتبنى مشروع المعهد زعماء الجمعيات الدينيّة الأخرى، مثل ''المحمدية'' وكثير من المفكرين والباحثين الإندونيسيين. لأوّل مرّة، قام المعهد العام 2008 بعقد ورشة عمل مكثفة لمدة 6 أسابيع متواصلة لنخبةٍ مختارة من طلاب الدكتوراه استضافتها جامعة ''المحمدية'' بمالانج في وسط جاوه. الإصلاح الدّيني طريق العقلانيّة * بخلاف كثيرٍ من المفكرين المنتجين؛ تهتمون بشكل واضح بالمعنى النهضوي والتغييري، وهو ما يتجلّى مع مواقفكم النقديّة لكلّ أشكال الهيمنة والتسلّط (الداخلي والخارجي). برأيكم، كيف يمكن أن يُقدِّم المفكّر صورته المستقلة - بوصفه باحثا نقدياً - من غير أن يتورّط في الحسابات والشعارات التعبويّة؟ (تجدر الإشارة إلى أن أحدهم يلمس في خطابكم المناهض للإمبريالية صورة معيقة لتقدّمكم الجذري في نقد الفكر والواقع الإسلامي). - كيف يكون نقد الإمبريالية معوقاً للتقدم في نقد الفكر والواقع؟ حين نقول ''نقد الواقع''؛ هل نعني أن هذا الواقع خلاء داخلي محض لا علاقة له بالمحيط الأوسع؟ هل الإمبريالية والصهيونية والمقاومة مفردات تقع خارج الواقع؟ النقد هو النقد، هو فعالية جوهرية في العمل البحثي. من يتهمني بالتورط في الحسابات والشعارات عليه أن يُقدّم الدليل. خيبتي الكبرى - وهي نجاحي وفخري بوصفي باحثاً - أنني في الغرب كما في الشرق ناقد. لهذا يكرهني البعض هنا، ويكرهني البعضُ هناك. فالنقد مرآة تكشف القبح والزيف في أيّ ثقافة. التعالي على نقد الواقع بمعناه المعقد والمركب يردني إلى حسابات منْ يتخذ الفكر والبحث وسيلة لتحقيق وجاهة هي بذاتها المعوق الأصلي. * يجتهد مفكرون عرب لاجتراح قراءات تنويرية، لاسيما في مقاربة النصوص الدينية والكشف عن تاريخيتها أو نزوعها المقاصدي أو تغليفها المقيّد بسلسلة التأويلات الفقهيّة. أنتج هذا المسار جملة من الاتجاهات والنظريات والتيارات: منها الليبرالية الإسلامية، العلمانية الإسلامية، الإسلام الروحي، لاهوت تحرير الإسلام، اليسار الإسلامي، العصرية الإسلامية و.. أولاً: كيف تقاربون حركة التنوير العربي في المجال الديني؟ ثانياً: أيهما تراه يحتل الأولوية في السياق العربي الراهن؛ المباشرة الجدّية في إصلاح ديني، أم العمل على طرح تنوير عربي عام يحمل أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان والانطلاق بها في الفضاء العام؟ - كلّ العناوين المطروحة أعلاه محمّلة بإيديولوجيا تعوق المعرفة، حتى كلمة ''التنوير'' صارت محمّلة بهتافات وشعارات. المباشرة الجدية للإصلاح الديني - الذي هو المقدمة لتأسيس العقلانية التي تفضي إلى تأسيس مفاهيم الحرية والمساواة والعدل، تلك المفاهيم التي بدونها لا مجال للتفكير العلمي، الذي بدونه لا يقوم مجتمع حديث - هذا الإصلاح الديني لا يتحقق بتعبئة الأفكار القديمة في عبوات جديدة. لا إصلاح ديني دون نقد للفكر الديني. دون هذا النقد لا تجديد ولا هم يحزنون. التجديد هو قتل القديم بحثاً. هكذا يؤكد الشيخ أمين الخولي. دون قتل القديم بحثاً - لاحظ استعارة القتل للفعل النقدي - لا تجديد ولا إصلاح. في قلب هذا النقد؛ طرح القضايا المسكوت عنها واقتحام مناطق اللامفكر فيه - حسب محمد أركون - وما زلنا في بداية الطريق. لكن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة غير خائفة ولا متردّدة. الوقت ـ نادر المتروك
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة