بدأ الاهتمام الجدي بمشروع موازنة العام 2010 مؤخراً، علماً بأنه كان يفترض بحكومة منبثقة عن انتخابات نيابية عامة وتأخر قيامها بضعة أشهر، وبالتالي لم تتمكن من تقديم الموازنة ضمن المهلة الدستورية، كان يفترض بهكذا حكومة أن يكون تقديم الموازنة أولى أولوياتها، خاصة أن الدولة تعيش من دون موازنات منذ سنة 2005، وأيضاً لأن رئيس الحكومة الجديد يدخل امتحانه الأول والأهم والأصعب في المجال الاقتصادي، والسياسي على حد سواء. وهنا، يلفت نظرنا ما بدا من جانب فريق السلطة من عودة إلى مقولات سابقة، وإن صيغت بقوالب وتعابير جديدة. ومنها أنه لا يجوز العودة إلى زيادة الدين العام! وأنه لا يجوز القبول بنفقات جديدة (يطلبها بعض الوزراء الجدد) إلا إذا ترافق ذلك مع القبول بواردات جديدة تؤمن المبالغ نفسها كحد أدنى! كل هذا لأنه سيؤثر سلباً على الفائض الأولي (!) ويزيد من نسبة العجز... إلخ، ولنا على هذا الكلام الملاحظات التالية: «تعقيم السيولة»!). ثم أيضاً، هل عبء الدين هو المهم أم أن نسبة هذا العبء إلى الدخل (دخل الخزينة و/أو الدخل الوطني) هو الأهم؟ وإذا كانت نسبة العبء إلى الدخل هي الأهم، فإنه يمكن تخفيضها طبعاً بزيادة الواردات مباشرة، وأيضاً بزيادة الدخل الوطني (وبالتالي زيادة الواردات) عن طريق النفقات الجديدة! (وهنا لا بد من أن نشير إلى السهولة والمرونة العالية التي يبديها المسؤولون في تحديد حجم الناتج المحلي القائم!). لكل ذلك وجب تحديد المقصود بمقولة عدم زيادة الدين العام حتى يكون النقاش جدياً وهادفاً. هكذا، فالمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت سبق، أن نعيد النظر في تفاصيل النفقات العامة، وأن نعيد ترتيبها وفق سلم أولويات يتوافق مع «أولويات الناس» وليس مع أولويات ورغبات وجشع ونهم القليل القليل منهم، وبما يُنتج أعلى نسبة من النفع العام (وليس المنفعة الخاصة). ومن غير المقبول بعد اليوم أن نستغل أي ذريعة ممكنة للإمعان في زيادة بعض الضرائب ذات التأثير التراجعي، خاصة الضريبة على القيمة المضافة وبعض الرسوم وأسعار السلع والخدمات العامة. 1 ـ نبدأ بمقولة عدم جواز العودة إلى زيادة الدين العام. ونسأل: هل يعني ذلك عدم جواز زيادة حجم الدين العام بالمطلق؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل يعني ذلك عدم جواز زيادة حجم الدين العام بالليرة أو بالعملات الأجنبية أو بالعملات جميعاً؟ وهل انه لا فرق في حجم الدين بالليرة وحجمه بالعملات؟ ثم، هل حجم الدين العام هو الأساس والمهم، أم عبؤه (أي الفائدة المترتبة عليه) هو الأهم؟ وإذا كان العبء هو الأهم فبالإمكان تخفيفه عن طريق تخفيض الفائدة، إضافة إلى تخفيض حجم الدين. (وهنا نسجل أن الخزينة تستمر في دفع نسب فائدة مرتفعة تحت ذريعة
2 ـ أما مقولة إنه لا يجوز القبول بنفقات جديدة ما لم يتم القبول بواردات جديدة والمبالغ نفسها على الأقل، فهي مقولة لا تصمد أمام التحليل المنطقي، وتستخف بعقول من يسمعها. ذلك أنها تفترض أن جميع النفقات القائمة عند البحث بنفقات جديدة هي نفقات لها أولوية مطلقة، وغير قابلة للبحث في شطبها أو على الأقل تخفيضها، وأنها شبه مقدسة لا تمس!!! فهل هذا صحيح؟ ومن قال إن القبول بنفقات جديدة يعني حكماً زيادة في مجموع النفقات؟ ألا يمكن أن تخفض بعض النفقات القائمة حالياً ويعاد تحويل بعضها الآخر لتفسح المجال لأولويات إنفاق جديدة؟ وهل صحيح أن النفقات الحالية لها جميعها أولوية على أي نفقة جديدة؟ نحن موقنون بأنه بالإمكان تأمين المال اللازم لنفقات جديدة تكون لها أولوية على نفقات قائمة عديدة من دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة في مجموع حجم النفقات العامة (وهذا ما قمنا به خلال فترة ولايتنا القصيرة في وزارة المالية 2004 ـ 2005). أي أن موضوع النفقات الجديدة المطلوبة يجب أن يبحث من باب مفاضلة أولوياتها مع أولويات النفقات القائمة التي يفتقر العديد منها لأي أولوية اقتصادية أو اجتماعية، وليس من باب ضرورة فرض ضرائب ورسوم جديدة! 3 ـ والأمر نفسه ينطبق على موضوع الواردات، أي الضرائب على مختلف أنواعها والرسوم وأسعار السلع والخدمات العامة. إذ انه حتى لو لم نكن بحاجة إلى موارد إضافية (ونحن هنا نجزم بأنه لا حاجة اليوم للخزينة لها)، فإنه من الملح والمطلوب إعادة النظر بهيكلية الواردات العامة وذلك بغرض تأمين عدالة اجتماعية أعلى وتأمين إعادة توزيع للدخل والثروة بين المواطنين والمناطق أكثر عدالة، ومن أجل خدمة الأهداف الاقتصادية العامة كالتنمية والتثبيت الاقتصادي (وليس النقدي المشوّه). ذلك أنه لا أحد يُقر بأن هيكلية الواردات العامة القائمة اليوم هي الأفضل، وأنه لا يمكن الاستفادة من إعادة النظر بها جذرياً خاصة لجهة تحميل المُكلفين بالنسبة إلى قدرتهم على الدفع. إلا أن مثل هذه الورشة يصعب الدخول فيها الآن ونحن على أبواب تحضير الموازنة العامة، المتأخر تحضيرها أصلاً
الياس سابا - "السفير".