احتياجات النازحين المعوقين أثناء الإخلاء والإيواء: هل هناك من اعتبر؟

عماد الدين رائف

عشرات الأشخاص المعوقين حركياً تركوا في منازلهم تحت القصف عند فرار ذويهم إلى مناطق أكثر أمناً في حرب تموز 2006. آخرون حُملوا على الأكتاف أو كيفما اتفق لمسافات طويلة. ومنهم من وصل إلى مراكز النزوح في صندوق سيارة متحملين الحرّ لساعات وساعات.. وبعد وصولهم، وجدوا مراكز نزوح غير مجهزة لاستقبالهم. طبعا، تم كل ذلك في ظل «غياب الإدارات الرسمية كافة عن أدنى قدر من التخطيط اللازم للحفاظ على أمن المواطن المعوق النازح وإيوائه، فضلاً عن الحفاظ على كرامته». تلك حقيقة ظهرت جلية خلال أيام النزوح الثلاثة والثلاثين التي عاشها أكثر من مليون مواطن لبناني بين الثاني عشر من تموز والرابع عشر من آب 2006. أما السلامة والصحة والراحة والكرامة، فقد هدرت كلها في مراكز النزوح على مرأى ومسمع من العالم. فما الذي كان ينبغي أن يتوافر عشية تلك الحرب؟ سؤال بدت الإجابة عليه بالغة الصعوبة، خاصة بعد الاجتماع العاجل لممثلي منظمات المجتمع المدني ظهر الثالث عشر من تموز 2006 لوضع خطة طوارئ، وبيّن بنتيجته المرّة مدى ابتعاد المجتمع المدني عن «الإغاثة»، بعد حصر عمله لفترة طويلة بـ«التنمية». اليوم، وبعد خوض ناشطي حركة الإعاقة لتجارب النزوح والإيواء و«النهوض المبكر» و«مراكز دعم الإعاقة» وإزالة آثار الحرب النفسية والاجتماعية، و«تحسين سبل العيش»، وغيرها... يقفون عند نقاط الضعف الكثيرة التي يبدو أنه من الممكن العمل على تلافيها في أي نزوح مماثل، سواء كان ناتجا من كارثة طبيعية، أو عدوان جديد. تقول المنظمات المدنية الدولية لـ«السفير»، ولمناسبة مرور أربعة أعوام على العدوان، انها درست تلك التجربة واستفادت منها، وأدرجتها في أدلة توعوية وتوجيهية، فيما لم تبادر الحكومة اللبنانية إلى ذلك بعد، طبعا. في الإغاثة ونتائجها إنجازات كثيرة، وتشبيك فاعل مع الجهات المدنية والأهلية كافة التي عملت على الأرض مع النازحين المعوقين من الجنوب إلى الشمال إلى البقاع، أمام واقع يشير إلى «أن 83 بالمئة من المستهدفين النازحين لم تكن بحوزتهم بطاقات الإعاقة الصادرة عن وزارة الشؤون الاجتماعية، بل أنهم لم يكونوا قد سمعوا بوجودها أصلا». ثمانمئة أسرة، ضمّ معظمها أشخاصاً معوقين، كانت من نصيب «برنامج الطوارئ ـ مشروع الإغاثة»، الذي أطلقه اتحاد المقعدين اللبنانيين منذ اليوم الأول للحرب، كما يقول المنسق العام للمشروع محمد لطفي، وهو شاب مكفوف يعمل حالياً على إنجاز أطروحة دكتوراه في التنمية في «جامعة واشنطن». ويشرح «عملنا فوراً على التواصل والتشبيك مع الهيئات المحلية والدولية المعنية بعملية الإغاثة أو المستعدة لتأمين مصادر الدعم». أما المشروع، فنفّذ على الأرض مع النازحين والهيئات والبلديات والمؤسسات والجهات المعنية في كل من صيدا، وبيروت، وعاليه وجوارها، والبقاع الغربي، وجبيل وقضائها. وتم الاتصال والتنسيق بين كل تلك الجهات من أجل توفير مصادر دعم مالي وعيني لعمليات الإغاثة التي أنجزها الاتحاد والهيئات المعنية الأخرى، ولتأمين فريق كبير من المتطوعين يعمل على متابعة عمليات الرصد والتوثيق، بإشراف منسقي الوحدات. وعمل المتطوعون على «تأمين الوحدات الغذائية، والاحتياجات الطبية من أدوية ومعينات طبية خاصة بالأشخاص المعوقين النازحين أو المحاصرين في المناطق التي تعرضت للقصف، وتحديداً في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي الجنوب وفي البقاع. كذلك، تم رصد ومتابعة حالات النازحين المعوقين في مراكز النزوح، ومن ثم تأمين احتياجاتهم والعائلات المرافقة لهم». تلخص مديرة البرامج في اتحاد المقعدين اللبنانيين سيلفانا اللقيس، الدروس المستفادة من الإغاثة معتبرة أن أهمها هو «مشاكل تتعلق بغياب إحصاء شامل للأشخاص المعوقين في لبنان يشمل نوع ودرجة الإعاقة بالإضافة إلى كيفية التواصل، وبغياب إحصاء شامل للمنظمات المدنية والأهلية والمؤسسات المعنية بتقديم خدمات يشمل اختصاصها وكيفية التواصل معها». بالإضافة إلى ذلك، هناك ضرورة دراسة وسائل الإخلاء المثلى للأشخاص المعوقين والمواصلات أثناء النزوح، وعملية استقبال النازحين وتضمين الاستمارات، بعد توحيدها، خانة لدرجة الإعاقة وصنفها، ومعها مشاكل الإيواء من دراية الكادر البشري المسؤول عن المركز إلى التجهيزات الهندسية والفنية داخله، والخدمات الطبية الفورية داخل المركز ومخزون المستلزمات والمعينات المتعلقة بالإعاقة، ومشاكل التموين والمواد الغذائية، وأهمية وجود المنسقية الرئيسية لعمليات الإغاثة في مركز آمن. وتشير اللقيس أيضا إلى كل ما يتعلق بالكوادر الميدانيين من جهوزية واستعداد إلى العدد وضمان الحد الأدنى من سلامتهم خلال أدائهم مهامهم، بالإضافة إلى عملية المتابعة اليومية للنازحين المستهدفين، سواء من تلبية الحاجات والتواصل وصولا إلى ملء استمارات العودة». وبالطبع، لا يمكن برنامج أي منظمة مدنية أو مشروع، مهما بلغت قدرته على الانتشار، أن يتحمل مسؤولية كل المهام السالفة الذكر، لذلك تعتبر اللقيس أنه «لا بد من وجود توجه رسمي واع لكل الحاجات، يأخذ بعين الاعتبار حاجات الأشخاص المعوقين ضمناً، ويدخل ذلك في صلب عمل الهيئة العليا للإغاثة والوزارات المعنية». «نازحون غير مرئيين» يعود جهاد إسماعيل، مدير مركز بيروت في «مشروع الإغاثة»، إلى الأيام الأولى للنزوح، ويطرح مشكلة لا تزال مستعصية على الحل، «لدينا في الاتحاد جداول اسمية بالأعضاء المعوقين، وعملنا فوراً على تحديثها، لكن المشكلة كانت في عدم توافر قاعدة بيانات حول كل الأشخاص المعوقين واحتياجاتهم وعناوينهم، ما وضعنا أمام تحد كبير في ما يتعلّق بالعمل على إجلاء النازحين المعوقين، خاصة في أقضية صور وبنت جبيل ومرجعيون». وبدأت تلك المشكلة بالظهور منذ بداية النزوح، حيث أدّت مدينة صيدا دورين بالغي الأهمية، إذ كانت الممر الطبيعي نحو الشمال من جهة، والمستقر المؤقت لآلاف العائلات النازحة من جهة أخرى. والتحق المتطوعون بالحملة التي نظمتها بلدية صيدا، وسمّيت بـ«حملة الإغاثة الشعبية». إلا أنهم «اصطدموا بتجاهل اللجان المختصة بالإحصاء لحاجات الأشخاص المعوقين»، بحسب ما يوضح عبد الكريم سرحان، منسق «الإغاثة» في صيدا. بالإضافة إلى ذلك، كان يتعيّن على فريق المشروع في كل من بيروت والبقاع والجبل وجبيل، التجول في كل مراكز النزوح من غرفة إلى أخــرى لمعرفة إن كان بين النازحــين أشخــاص معوقون. كأن هــؤلاء كانــوا نازحين غير مرئيــين، وبقــوا كــذلك حتى لحظة رصدهم، وتصنيف إعاقاتهم وحاجاتهــم للعمــل على تلبـيتها. في البقاع، تقول رسمية الهندي: «نسقنا مع كل الجهات لتوحيد الاستمارات أو إضافة الأشخاص المعوقين إليها، كما أن خلو المدارس التي آوت النازحين من التجهيزات كان عائقاً أمام المتطوعين من المعوقين من رصد الحالات وإيصال المساعدات». مأساة الإيواء.. والحاجات خلت مراكز النزوح من التجهيزات التي تحترم حاجات الأشخاص المعوقين، وكانت بمعظمها مدارس رسمية، ودور عبادة، ومرائب أبنية، وحدائق وباحات. ولم يؤخذ بعين الاعتبار الطلب المتكرر للاتحاد بتخصيص القاعات الأرضية لهم، فكان بعضهم يحمل إلى الطوابق العليا ويترك فيها. إلا أن «الاتحاد قام بتجربة المركز المجهز في جبيل، فتسلم تنظيم الإغاثة في مدرسة المدينة الرسمية، محولاً إياها إلى مركز نموذجي لاستقبال النازحين المعوقين وذويهم». وفي الجبل، ومع غياب التجهيزات في مراكز النزوح، كان يتعيّن على منسق المشروع حسام الدنف أن يستقر على كرسيه المتحرك في ملاعب مدارس النزوح غير المجهزة لاستطلاع الحاجات. يقول الدنف إنه «مع غياب التجهيز، لا بد من وجود متطوع غير معوق لكنه على إلمام بحاجات النازحين المعوقين لملء الاستمارات ومتابعتها». كما أن الإيواء لم يقتصر على مراكز النزوح من مدارس ومبان جامعية وحدائق ودور عبادة، إذ ان النازحين المعوقين إلى منازل أقرباء لهم كانوا الأقل حظاً في توجه الجمعيات، فقد «أخذ الاتحاد على عاتقه تلبية حاجات هذه الفئة، متلقياً 283 طلباً للإغاثة من منازل احتوى معظمها على شخص معوق على الأقل»، كما يقول لطفي. ولوحظت كذلك مبادرات فردية في الإيواء، كانت على تواصل مع المشروع، أثبتت فاعلية كبيرة. وعلى سبيل المثال، حول بشير أبو زكي مع زملاء له، باحتي «مستشفى البربير»، و«الليسيه ناسيونال» إلى مركزي إيواء. يقول: «تعاونت مع بعض أهل الحي لتلبية ما نستطيع من احتياجات للعائلات النازحة، وعرض علينا البعض تأمين الطبابة من مستوصفات متنقلة». كما أن النزوح مثّل مادة للاستغلال الإعلامي عند البعض، فظهر على شاشات التلفزة عدد من «رؤساء الجمعيات» الذين ادعوا أنهم «يستقبلون أشخاصاً معوقين في مركز جمعياتهم»، إلا أنه عند الاتصال بهم تبين كذب ادعاءاتهم. وفضل بعض ذوي النازحين المعوقين الذين تم تأمين استقبالهم في بيوت متطوعين، مع تأمين كل احتياجاتهم، العودة إلى مراكز النزوح كونها تعود بفائدة أكبر عليهم من المتبرعين. ودفع اختفاء بعض المواد الغذائية والمستلزمات الطبية و«جنون الأسعار» بناهدة حميّد، وهي مسؤولة العمل التطوعي في المشروع، إلى «المغامرة باتجاه البقاع والعودة نحو بيروت، للحصول على المواد المطلوبة في وقت كانت المقاتلات الحربية تستهدف كل ما هو متحرك على الطريق». تقول «كان لا بد من القيام بذلك، إذ أن حياة كثيرين كانت تتوقف على تقديم المساعدات في ظل الظروف القاسية التي شهدناها». الأمر ذاته حصل مع المتطوعين سونيا اللقيس وجوزف خليفة، وهما ينقلان المساعدات من جبيل إلى بيروت طيلة فترة النزوح. من الناحية الطبية، وصل مئات النازحين المعوقين والمسنين تاركين وراءهم سجلهم الطبي، أو وصفات الأدوية، أو حتى علـبة الدواء نفسها. هكذا، تعدت مسألة المساعدات الطبية تقديم كرسي متحرك، وعكاز، وكرسي حمام بديل، أو فرش الماء، أو مستلزمات العناية الصحية الشخصية، وظهرت حاجة ماسة لوجود أطبّاء متخصصين بالتعامل مع تلك الحاجات في مراكز النزوح فورا. وأتى تطوع عشرات الأطباء، ومنهم رفيق الأمين في صيدا، وحسين صفا في بيروت، ومروان البسط وآمال يونس وشبلي بو زخم في البقاع الأوسط، وقاسم حيدر في القماطية تلبية لهذه الحاجة الملحة. يقول البسط: «اشتد العدوان، وكان لا بد أن نفعل شيئاً. ففتحت عيادتي وحوّلتها إلى مركز طبي، بما أنه لا مستوصف في بلدة قب الياس. ثم شكلت مع الزملاء الأطباء فريقاً طبياً، وقدّمنا الطبابة المجانية للجميع وفتحت العيادة أبوابها ليل نهار». بعض الأسئلة.. المؤلمة أسئلة كثيرة ينتظر الناشطون إجابات لها، ومع احتمال دائم لتكرر المأساة.. «لماذا ترك الأشخاص المعوقون في بيوتهم في الجنوب وهرب أقرباؤهم؟ لماذا ترك أخوان معوقان ذهنياً في عيادة تحت القصف في الضاحية لمدة عشرين يوماً حتى أخلاهما فريق «مشروع الإغاثة» بعد علمه صدفة بأمرهما؟ لماذا قيّدت طفلة معوقة ذهنياً بجنزير في أحد مراكز النزوح في صيدا؟ لماذا قضى شاب معوق ذهنياً شهر نزوحه في مرحاض في محلة الأشرفية؟ لماذا رفض «مستشفى بيروت الحكومي» استقبال امرأة مسنة معوقة كانت تحتاج لتغيير ضمادات جرحها دورياً، وكان يلزمها العودة إلى غرفتها الكائنة في الطابق الثاني في مركز نزوح «ثانوية رينيه معوض الرسمية»؟ لماذا دخلت طفلة معوقة في صيدا حرم المدرسة للمرة الأولى بصفة نازحة ولم تدخلها قبل ذلك بصفة تلميذة؟ أين اختفى أكثر من ثلاثين شخصاً معوقاً من مبنى «بيروت مول» بعد إجلاء جميع من فيه قسراً بعد سقوط مبنى الشياح؟». أسئلة قد يجد المعنيون أجوبة لها لو توفرت لدى الحكومة السياسات العامة المطلوبة للتصدي للإغاثة والطوارئ.. والتي يبدو أنه حتى لو وجدت، فإنها لن تأخذ بعين الاعتبار معايير الإعاقة بعد عشر سنوات على غياب القانون 220/2000 الخاص بحقوق الأشخاص المعوقين من دون تطبيق.

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة