بعد أقل من أسبوع على استشهاد الرفيق الصحافي في جريدة الأخبار عساف بو رحال قرب ثكنة الجيش اللبناني في العديسة نتيجة العدوان الاسرائيلي على الأرض اللبنانية، قامت مخابرات الجيش اللبناني نفسه باعتقال الصحافي في جريدة "الأخبار" حسن عليق على خلفية المقال الذي نشر اليوم في الجريدة تحت عنوان "ماذا فعل أديب العلم في مكان اغتيال غانم؟"، لا بل أن الوزير الياس المر خرج في مؤتمر صحافي ليعلن أن كاتب المقال "جاسوس اسرائيلي"! وفي ما يلي مقال حسن عليق الذي اعتقل على أساسه:
الجد في السان جورج والعلم فـي مسرح جريمة اغتيال غانم أي جهاز أمني قال عنه الأمين العام لحزب الله إن أمن المقاومة سلّمه معلومات عن الاشتباه في تعامل غسان الجد مع الاستخبارات الإسرائيلية؟ ولماذا لم يوقفه الجهاز الأمني المذكور؟ ومن هو العميل الذي كان موجوداً في مسرح جريمة اغتيال النائب أنطوان غانم قبل ساعتين من حصولها؟حسن عليقليس غسان الجد شخصية مجهولة في عالم مكافحة التجسس. فجهاز أمن المقاومة رصد تحركاته في أكثر من منطقة، منذ نهاية 2005. وفي 2006، سلم حزب الله معطيات عنه إلى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، ليتحقق الفرع من هذه الشبهات، تمهيداً لتوقيفه. بعد ذلك، تعززت المعطيات الموجودة في حوزة جهاز أمن المقاومة عن الرجل، وقتَ توصلت مديرية استخبارات الجيش إلى معطيات مرتبطة ببيانات الاتصالات الهاتفية، تشير إلى تورّط الجد بالتعامل مع الاستخبارات الإسرائيلية. كان ذلك في أيار 2009. وعندما رصدت استخبارات الجيش، أرضياً، منزل العميد المتقاعد من الجيش، تبين أنه ليس موجوداً في منزله. بعض التحريات الإضافية أظهرت أن الرجل غادر إلى فرنسا. ومنذ ذلك الحين، لم يعد.في مؤتمره الصحافي أول من أمس، لم يشأ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، رداً على سؤال طرحته عليه «الأخبار»، الكشف عن الجهاز الأمني اللبناني الذي تسلّم من حزب الله معلومات عن وجود شبهات حول العميل الفار غسان الجد. قال نصر الله مبتسماً إنه لا يريد «فتح مشكل في البلد». لكن قليلاً من التدقيق في هذه المسألة يظهر أن الجهاز الأمني الرسمي الذي قصده نصر الله ليس سوى فرع المعلومات (علماً بأن جريدة «اللواء» المحسوبة على فريق الرئيس سعد الحريري السياسي، نشرت أمس أنّه مديرية الاستخبارات في الجيش).ففي النصف الأول من 2006، لم تكن العلاقة بين حزب الله وقيادة الفرع (ومن خلفها الرئيس سعد الحريري) قد وصلت إلى هذا الدرك من التشكيك المتبادل. وفي أحد اللقاءات التي جمعت رئيس الفرع العقيد وسام الحسن ورئيس لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا، تحدّث الطرفان عن مسألة مكافحة شبكات التجسس العاملة لحساب الاستخبارات الإسرائيلية. قال الحسن إن فرع المعلومات غير قادر على التوصل إلى معطيات تمكنه من توقيف أشخاص عاملين لحساب الاستخبارات الإسرائيلية، طالباً مساعدة حزب الله. ردّ صفا بأنه سيأتي بالخبر اليقين خلال أيام معدودة. وبالفعل، جرت اتصالات بين الرجلين خلال الأيام اللاحقة، قبل أن يسلّم صفا الحسن معطيات تشير إلى الاشتباه بتعامل خمسة أشخاص لبنانيين مع الاستخبارات الإسرائيلية. وبين هؤلاء كان اسم غسان الجد، العميد المتقاعد من الجيش اللبناني، والرقيب الأول في قوى الأمن الداخلي هيثم السحمراني.يقول معنيون بعمل فرع المعلومات إن محققين منه دققوا في بيانات الاتصالات الهاتفية للأشخاص الواردة أسماؤهم في التقرير الوارد من حزب الله، «ولم يلفت نظرهم ما يثير الريبة».وخلال الأشهر اللاحقة، أتت حرب تموز وما تلاها من انقسام سياسي في البلاد. أهمل فرع المعلومات المعطيات التي كانت بين يديه، ولم يقم بأي تحرك للتثبّت منها، ما عدا الارتكاز على تحليل «بدائي» لبيانات الاتصالات الهاتفية. فالفرع، على حد قول مسؤولين فيه، لم يكن قد حصل بعد على برامج معلوماتية تمكنه من تحليل الاتصالات الهاتفية على نحو متطور. لكن ما لا يمكن تبريره حتى اليوم، هو أن فرع المعلومات، المعنيّ بالأمن العسكري في قوى الأمن الداخلي، لم يضع السحمراني تحت المراقبة، رغم وجود معلومات لديه عن أن شقيقة السحمراني هربت قبل سنوات إلى فلسطين المحتلة مع أحد عملاء ميليشيا لحد. ففرع المعلومات يعتمد حصراً في مكافحة التجسس على تحليل البيانات الهاتفية. كذلك فإنه ظن، بحسب أحد المعنيين بعمله، أن حزب الله «يحاول اختباره في ملفات لا قيمة لها، إذ إن الشبهة التي تدور حول هؤلاء الأشخاص ضعيفة جداً». هذا ما كان يردده أحد أبرز المعنيين بعمل فرع المعلومات، حتى أيار 2009. ففي ذلك الحين، طلبت مديرية استخبارات الجيش من قوى الأمن الداخلي (وفقاً لما هو متبع بين المؤسستين) توقيف الرقيب الأول في قوى الأمن الداخلي هيثم السحمراني، بسبب وجود شبهات بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية. نفذ فرع المعلومات طلب استخبارات الجيش، وأوقف السحمراني. وبحسب معنيّ بالتحقيقات التي أجريت حينذاك، فإن السحمراني أقر مباشرة بتعامله مع الاستخبارات الإسرائيلية، «وأدلى باعترافات لدى محققي فرع المعلومات مطابقة لما هو وارد في الملف الذي قدمه حزب الله إلى الفرع». في اليوم التالي لتوقيفه، أحال فرع المعلومات السحمراني على مديرية استخبارات الجيش، حيث حُقِّق معه لساعات، أقرّ خلالها بتفاصيل صلته بالاستخبارات الإسرائيلية.المفاجآت في هذا الملف لم تقتصر على السحمراني. ففي الشهر التالي، توصلت مديرية استخبارات الجيش إلى معطيات تقنية يمكن من خلالها ربط العميد المتقاعد من الجيش، غسان الجد، بالاستخبارات الإسرائيلية. حاولت توقيفه، إلا أنه كان قد فرّ إلى خارج لبنان. وبحسب مصدر مطّلع، فإنّ عملية الفرار جرت بعد حصول المشتبه فيه على إشارات معيّنة لم يُعرف ما إذا كانت تسريباً مقصوداً أو معلومات وفّرتها له إسرائيل. ذلك أنه عندما تقرر توقيف الجد، أبلغ قائد الجيش العماد جان قهوجي وزير الدفاع إلياس المر بالأمر، فطلب الأخير التمهّل لبعض الوقت، لكنّ الجد سافر في اليوم التالي إلى خارج لبنان.ومنذ ذلك الحين، أظهرت البيانات الهاتفية التي حللها محققو فرع المعلومات واستخبارات الجيش، والمعلومات التي جمعتها استخبارات الجيش، أن غسان الجد ينتمي إلى «طبقة العملاء التنفيذيين». فبحسب مسؤولين أمنيين معنيين بملفات مكافحة التجسس، ينقسم العملاء إلى فئات عدة، أبرزها فئتا العملاء الاستعلاميين والعملاء التنفيذيين. عملاء الفئة الأولى مكلفون جمع معلومات إما بوسائط بشرية، أو من خلال أجهزة ومعدات يزودهم إياها الإسرائيليون. ويستفيد الإسرائيليون من بعض هؤلاء العملاء الذين ينفذون مهمات «لوجستية» متصلة، على نحو غير مباشر، بعمليات أمنية أو اغتيالات ينفذها الإسرائيليون. وخير مثال على ذلك، يضيف الأمنيون، الدور الذي اعترف الموقوف أديب العلم بتنفيذه في عملية اغتيال الأخوين المجذوب في صيدا، في أيار 2006.ففي ذلك الحين، لم يكن العلم يعرف شيئاً عن عملية الاغتيال، بل إن ما طلبه منه مشغّلوه الإسرائيليون انحصر في مراقبة الخط الساحلي في مدينة جبيل، وتحديد ما إذا كان ثمة تحركات مريبة أو دوريات أمنية وعسكرية. وربط الأمنيون المعنيون بين هذه المهمة التي نفذها العلم، وما كان قد اعترف به العميل محمود رافع الذي شارك في اغتيال الأخوين مجذوب. فقد قال رافع إنه نقل ضابطاً إسرائيلياً من الحدود الجنوبية في اليوم السابق لتنفيذ الجريمة، ثم أقلّه إلى شاطئ مدينة جبيل بعد التنفيذ، حيث حضرت قوة كوماندوس إسرائيلية لتأخذ الضابط.أما الفئة الثانية من العملاء، فتضم التنفيذيين، الذين تتضمن مهماتهم جمع معلومات. إلا أن عملهم الرئيسي هو تنفيذ الأعمال الأمنية، كالاغتيالات والتفجيرات وأعمال المراقبة السابقة لها، وإعداد الشؤون اللوجستية المرتبطة بها، فضلاً عن نقل ضباط إسرائيليين إلى داخل الأراضي اللبنانية وإيوائهم ونقلهم إلى المناطق التي سيخرجون عبرها من لبنان، سواء من البحر أو البر. كذلك يتولى هؤلاء عمليات زرع البريد الميّت. ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء، العميلان محمود رافع (أوقف عام 2006) وجودت حكيم (عام 2009).
استمهل وزير الدفاع توقيف الجد فغادر الأراضي اللبنانية ولم يعدوينتمي غسان الجد إلى فئة العملاء التنفيذيين. فبحسب المعلومات التي توافرت عنه للأجهزة الأمنية اللبنانية، كان الرجل يتنقل في مناطق زرع البريد الميت، الوعر منها والسهل. وكان يضع في هذه الأماكن متفجرات وأموالاً، وأجهزة اتصال ورسائل، ليأتي من بعده عملاء آخرون لتسلم هذه الأغراض. وكان يشتري بطاقات هاتف خلوي، ويرسلها إلى مشغّليه الإسرائيليين. وقد شارك الرجل، أكثر من مرة، في نقل ضباط إسرائيليين من شاطئ البحر إلى داخل الأراضي اللبنانية، وهو ما كشف عنه الأمين العام لحزب الله في مؤتمره الصحافي أول من أمس. أما أبرز ما قاله نصر الله عنه، فهو أن الجد كان موجوداً في منطقة السان جورج، في اليوم السابق لاغتيال الرئيس رفيق الحريري.
العلم واغتيال غانم
«مصادفات» وجود العملاء في مسارح عدد من الجرائم لا تقتصر على وجود الجد في منطقة السان جورج. فبحسب معلومات موثقة، تبين لفرع المعلومات بعد توقيف أديب العلم عام 2009، من خلال بيانات اتصالاته الهاتفية، أنه كان موجوداً في منطقة سن الفيل، على مقربة من مكان اغتيال النائب أنطوان غانم، قبل نحو ساعتين على وقوع الجريمة. وعندما سُئِل العلم عن هذه «المصادفة»، أجاب بأنه كان قد أوصل زوجته إلى صالون تزيين قريب. زوجته الموقوفة بالتهمة ذاتها، أكدت ما أدلى به زوجها، فتوقف التحقيق بهذه المسألة عند هذا الحد.«مصادفة» غريبة لعميل كان الإسرائيليون قد كلفوه تنفيذ استطلاع شاطئ منطقة جبيل، تمهيداً لإجلاء أحد ضباطهم منها، قبل سنتين من اغتيال غانم.