تمثّل «سوليدير» مثالاً فاقعاً على نوع الشراكة مع القطاع الخاص، الذي يصرّ عليه فريق واسع من القوى السياسية في البلاد. فهذه الشركة، التي أسسها الرئيس المغدور رفيق الحريري وتمتلك عائلته والمقرّبون منه معظم أسهمها سرّاً وعلانية، لم تكتفِ بمصادرة الأملاك الخاصة لأصحاب الحقوق في منطقة وسط بيروت بأبخس الأثمان بحجة تحقيق «المنفعة العامّة» عبر إعادة ترتيب وتطوير العقارات الواقعة على خط التماس في الحرب اللبنانية، بل تعدّت ذلك الى السطو على أملاك الدولة العامّة والخاصّة بتواطؤ واضح من المهيمنين على الحكومات المتعاقبة منذ 1991 حتى اليوم.
سطو تدريجي
فقد أنجز مجلس الإنماء والإعمار أخيراً إجراءاته لتنفيذ طلب «سوليدير» الرامي الى تمليكها عقارات تعود ملكيتها للدولة في المنطقة المستحدثة بنتيجة الردم الأصلي والإضافي على الواجهة البحرية لوسط بيروت، وذلك بالاستناد الى المرسوم الرقم 5665 الصادر بتاريخ 20/9/1994، والذي جرى بموجبه التصديق على اتفاق بين مجلس الإنماء والإعمار والشركة في شأن تمويل وتنفيذ أشغال البنية التحتية في منطقة وسط بيروت والأراضي المستحدثة بنتيجة ردم البحر. وقضى هذا الاتفاق بأن تنفّذ «سوليدير» أشغال البنى التحتية وأعمال الردم على نفقة الدولة، ومهما بلغت الأكلاف، على أن تتملك الشركة مقابل ذلك مساحة تقدّر حالياً بنحو 291800 متر مربع قابلة للتطوير العقاري، تمثّل نحو 35% من أصل مساحة الردم الأصلي والإضافي، علماً بأن «سوليدير» عمدت الى تضخيم أكلاف الأشغال والأعمال التي تنفّذها في هذا السياق، ليبلغ مجموعها أكثر من 475 مليون دولار (تقديرات سنة 1994)، أي أنها حصلت على عقارات تتسم بأهمية بالغة على الواجهة البحرية بسعر 1627 دولاراً للمتر المربع الواحد من الأرض. وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّ الشركة حقّقت من هذا الاتفاق أرباحاً خيالية، إذ تولّت عملية تصميم البنى التحتية والردم بما يخدم مصالحها أوّلاً وأخيراً، واستفادت بالتالي وحدها من ربح التحسين العقاري. فقد ارتفعت أسعار العقارات فيها عشرات الأضعاف عمّا كانت عليه قبل إنجاز الأشغال والأعمال المنصوص عليها في الاتفاق المذكور، وزادت استفادتها من جرّاء الإعفاءات الضريبية شبه الشاملة التي مُنحت لها حصراً على مدى سنوات طويلة... وللدلالة على حجم إفادة «سوليدير»، فقد عمدت الى توقيع عقود بيع للعقارات القائمة في منطقة الردم على أساس متر الهواء، لا على أساس متر الأرض. ووفقاً لنظام البناء المرفق بالمرسوم 4830 الصادر في آذار 1994 أيضاً، فإن مساحة الهواء العقاري التي يحق للشركة تطويرها تبلغ نحو 4.5 ملايين متر هواء، أي ما قيمته 12 مليار دولار حداً أدنى بحسب تقديرات العاملين في السوق العقارية. وقد تعاقدت على بيع نحو 2.5 مليون متر حتى اليوم، أي ما قيمته 6.5 مليارات دولار... وهي تسعى الى زيادة الأمتار الهوائية التي يحق لها تطويرها عبر رفع عامل الاستثمار في المنطقة المعنية، إلا أن بعض الوزراء لم يوافقوا حتى الآن على مشروع مرسوم في هذا الشأن طُرح على مجلس الوزراء أكثر من مرّة منذ عام 2007، وآخرها كان منذ أشهر قليلة في ظل الحكومة الحالية.
توزيع العقارات
وبحسب كتاب لرئيس إدارة الشؤون القانونية في مجلس الإنماء والإعمار كريستيان بو نجم، أحاله منذ فترة الى مجلس الإدارة، فإن المساحة العقارية التي ستضع شركة «سوليدير» يدها عليها، تتألّف من: أ. 79 ألف متر مربع تتملّكها «سوليدير» مقابل تنفيذ أشغال البنية التحتية في منطقة الوسط التقليدي المعرفة في متن الاتفاق المصدق بالمرسوم رقم 5665/94. ب. 212800 متر مربع تتملكها «سوليدير» مقابل تنفيذ أشغال الردم الأصلي وأشغال الردم الإضافي وكذلك أشغال البنية التحتية المستحدثة بنتيجة الردم الأصلي والإضافي المعرّفة في متن الاتفاق المصدّق بالمرسوم رقم 5665/94، منها مساحة 29 ألف متر مربع غير قابلة للبناء، لكنها قابلة للاستثمار. ويقول الكتاب نفسه إن شركة «سوليدير» أنجزت لتاريخه معظم أشغال البنية التحتية في منطقة الوسط التقليدي لمدينة بيروت وأشغال الردم الأصلي والردم الإضافي، إلا أن الشركة لم تباشر بعد بتنفيذ أعمال البنية التحتية في المنطقة المستحدثة بنتيجة أشغال الردم الأصلي وأشغال الردم الإضافي، وكذلك بأشغال المرفأ السياحي الشرقي (أحد المرفأين السياحيين اللذين تنفّذهما الشركة على نفقة الدولة أيضاً، وفازت مسبقاً بحق استثمارهما في مقابل مبالغ زهيدة جدّاً للخزينة)... ولكن الكتاب يتبنّى طلب شركة «سوليدير» في كتابها المسجل لدى المجلس تحت الرقم 16830/م.ر. تاريخ 14/12/2009 تمليكها البلوكات التطويرية (1) و(2) و(3) على الخريطة (Id - Mp)، البالغة مساحاتها نحو 29468متراً مربعاً... ويطلب الكتاب أن يصار الى إبلاغ المديرية العامة للشؤون العقارية وإمانة السجل العقاري المركزي في بيروت بضرورة استحداث ثلاثة عقارات بالاستناد الى هذه الخريطة (Id - Mp)، بحيث يمثل كل عقار منها واحداً من بلوكات التطوير التي تطلب الشركة تمليكها إياها، وأن تُسجل العقارات الثلاثة التي ستستحدث على اسم شركة «سوليدير» في السجل العقاري من دون أن يترتب على شركة «سوليدير» أي رسم تسجيل أو غيره، كما أن شركة «سوليدير»، يضيف الكتاب، تطلب الموافقة على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتمليكها البلوكات التطويرية (4) و(5) و(6) و(7) و(8) و(9) المبيّنة على الخريطة (le - Mp).
تأمين سيولة للحريري
اللافت في نص كتاب مجلس الإنماء والإعمار ليس فقط مباشرة العمل على تحويل عقارات من ملكية الدولة الى ملكية الشركة الخاصة بشكل مخالف للقانون، بل أيضاً استناده الى خريطة تنطوي على تعديلات لمصلحة الشركة على التصميم التوجيهي والنظام التفصيلي للقطاعين التنظيميين (A) و(D)، وهي التعديلات نفسها التي لم يوافق عليها مجلس الوزراء حتى الآن، على الرغم من طرح مرسوم في هذا الشأن مرّات عدّة عليه... وهو ما اعتبرته المصادر المطّلعة محاولة للالتفاف على صلاحية مجلس الوزراء وتهريب قرارات لا تحظى بالشرعية المطلوبة، وتوقّعت هذه المصادر أن تكون هذه المحاولة قد توسّلت السرعة بهدف معالجة أزمة نقص السيولة النقدية لدى رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري ومؤسساته، إذ إن المعلومات تفيد بأنه بات مكشوفاً على أكثر من 1.6 مليار دولار من التسهيلات والديون المصرفية محلياً، وبالتالي فإن من شأن وضع اليد على العقارات المطلوب نقل ملكيتها الى شركة سوليدير تحرير مبالغ طائلة من عقود بيع هذه العقارات المبرمة منذ فترة وقبل أن تتم عملية النقل وتسوية الخلافات في شأنها!ويبرر مجلس الإنماء والإعمار لجوءه الى تسجيل عقارات باسم «سوليدير» على أساس تعديلات لم يصدر مرسومها بعد، بأن مساحات البلوكات العقارية الثلاثة المطلوب نقلها لم تتغيّر بموجب التعديلات المقترحة، إلا أنه يتجاهل أن حدودها وحقوق البناء عليها تغيّرت تغيّراً فاضحاً، ما يجعل كل عملية النقل باطلة، وكذلك الحقوق التي ستنشأ على عقود بيعها.
عمليّات نقل سابقة
الجدير بالإشارة أنه سبق لشركة «سوليدير» أن تملكت سابقاً، وبالاستناد الى الاتفاق الموقّع معها المصدّق بالمرسوم 5665/94 مساحات في منطقة الردم الأصلي بلغ مجموعها 77634 متراً مربعاً، إذ يوضح كتاب سوليدير الى مجلس الإنماء والإعمار أن المجلس عمد في 14/11/1998 الى تمليك الشركة العقارين 1515 و1516 في المرفأ اللذين تبلغ مساحتهما 27531 متراً مربعاً، وكذلك تمليكها العقارين 1455 و1456 بتاريخ 25/3/2003 في ميناء الحصن اللذين تبلغ مساحتهما 22341 متراً مربعاً... أي أن إتمام عملية تمليك الشركة البلوكات العقارية 1 و2 و3 سيرفع مساحة ما تملّكته «سوليدير» من منطقة الردم حتى الآن الى 107102 متر مربع، تمثّل ما نسبته 36.7% من المجموع الإجمالي للمساحة التي ستتملكها بموجب الاتفاق معها، البالغة 291.800 متر مربع. ويبرر مجلس الإنماء والإعمار اندفاعته في نقل الملكية العامّة الى الشركة بأن الأشغال المنجزة من قبلها، والتي جرى تسلّمها نهائياً لتاريخه، تمثّل قيمتها التقديرية الموضوعة سنة 1994 ما نسبته 76.34% من إجمالي الكلفة التقديرية لكل الأشغال، التي ادّعت «سوليدير» تنفيذها، أي ما يوازي 362 مليوناً و615 ألف دولار. (الأخبار)
مسلسل الفضائح متواصلفي 1992، كانت مساحة الوسط التجاري 1.117 مليون متر مربع بين أملاك عامة وخاصة، أُضيفت إليها مساحات بالجملة والمفرق في أوقات متفرّقة، فارتفعت المساحة الى نحو 1.980 مليون متر مربع. وقد تملّكت «سوليدير» العقارات المحددة بالمرسوم 2236، ثم ضمّ المرسوم 2786 أراضي «الشركة العقارية والمالية لمرفأ بيروت» والبالغة 83 ألف متر مربع إليها. ورأى هذا المرسوم أنها أراضٍ عمومية ملحقة بمنطقة الوسط التجاري، ثم بدأت مشاريع ردم البحر وتوسيع مساحة مكبّ النورماندي. وفي 1994، أقرّ مجلس الوزراء ثلاثة مراسيم، صدرت بعدها ثلاثة مراسيم أخرى وقرار وزاري في 2007، ارتفعت بنتيجتها المساحة المردومة من 240 ألف متر مربع إلى 780 ألفاً، أي بزيادة 540 ألفاً. في مرحلة التوسّع الأولى في 1994، عُقد اتفاق بين «سوليدير» ومجلس الإنماء والإعمار لكي تنفّذ الشركة كامل أشغال البنية التحتية للوسط التقليدي، وأشغال «الردم الأصلي» و«الردم الإضافي» بكلفة تقريبية قدّرت بنحو 475 مليون دولار، على أن تدفع الدولة هذه الكلفة «نقداً أو بإعطائها (سوليدير) قسماً من الأراضي المستحدثة»، وأقرّ في المرسوم نفسه الرقم 5665 مبدأ «التسديد العيني من أصل المساحات المستحدثة لجميع الأشغال التي ستترتّب على الدولة من أشغال ستقوم بها سوليدير في هذه المنطقة». وبذلك، حصلت الشركة على نسبة 35 في المئة من المساحة الإجمالية البالغة في حينه 608 آلاف متر مربع، أي 212.8 ألف متر مربع، والباقي (395.2 ألف متر مربع) للدولة، من ضمنها الطرقات والساحات والحدائق وأراضٍ للتطوير العقاري (لا يبقى منها للدولة أراضٍ قابلة للتطوير العقاري إلّا 16 ألف متر)... وذلك مقابل أعمال معالجة الردم وتنفيذ أشغال البنى التحتية في المنطقة الواقعة فيها هذه العقارات، وأن تقوم أيضاً بترتيب وإعادة إعمار المنطقة وترميم الأبنية وإنشاء الجديد منها وبيعها وتأجيرها واستثمارها وصيانتها. أي مقابل تطوير عقارات على الواجهة البحرية للعاصمة ستملكها وتستثمر فيها لتزيد أسعارها أضعافاً. وحصلت «سوليدير» على امتياز رفع عامل الاستثمار في المنطقة إلى 5، وأعطيت مساحة 79 ألف متر إضافية من الأراضي المستحدثة في منطقة الردم لتسديد مبلغ 129 مليون دولار يمثل كلفة أشغال البنية التحتية في المنطقة التي سمّيت «الوسط التقليدي»، وحينها بلغت حصّة «سوليدير» من الأراضي المستحدثة 291.8 ألف متر مربع. في المرحلة الثانية، أي منذ 1996 حتى 2007، صدرت ثلاثة مراسيم وقرار وزاري واحد، فاتسعت المنطقة المردومة إلى 730 ألف متر مربع، وخُصّصت «سوليدير» باستثمار المرفأين الشرقي والغربي على جانبي الردم، فيما صدر القرار الوزاري 156 والقاضي بتوسعة الردم إلى 780 ألف متر لتشييد قصر المؤتمرات باستخدام ركام الضاحية الناتج من حرب تموز 2006. وتتضمن هذه المرحلة أبرز عملية «وضع يد»، بحسب وزير سابق مطّلع على الملف. إذ صدر المرسوم الرقم 5714، الذي ضمّ 24471 متراً مربعاً من أملاك الدولة الخاصة في منطقة الوسط وألحقها بالأملاك العمومية الداخلة ضمن نطاق مشروع «سوليدير» من دون أي تعويض. فهذه العقارات هي عبارة عن مبانٍ (محيط منطقة غاليري غندور) كانت الدولة قد استملكتها عام 1984 وتحوّلت إلى أراضٍ خاصة بالدولة. وهناك قسم من هذه الأمتار الموضوع اليد عليها كانت عبارة عن طرقات خاصة.