الفلاحون مشوا خلف جنازتك يا عساف. قرعوا أجراس حزنهم ومشوا وأنت الذي اعتدت أن تمشي معهم من حقل إلى شجرة زيتون... ناصحاً ومرشداً ومساعداً. كلّ رفاقك كانوا هنا حاملين راياتهم الحمراء، وكلّ مقاومتك هنا وأنت الذي لم تخذلها يوماً من زمن «الحكيم» جورج حبش و«الرفيقين» جورج حاوي وجورج نصر الله، إلى زمن السيّد حسن نصر الله. رفاقك في سلاح القلم جاؤوا من كل حدب وصوب، وأنت الذي كان لك «طبعك» الخاص في كتابة جنوبك. فـ«المعمرجي» كامل ترك ورشته وجاء إليك، وأبو قاسم زهرة آخر «المنسحبين» بالقوة من مزارع شبعا المحتلة مشى حاملاً كلّ هموم العمر وزيتونات بسطرة وكلّ المزارع، وخليل زغيب أبى أن يبقى بعيداً عنك في لحظة الوداع، وأم رياض التسعينية تركت سنديانتها وجاءت دامعة، و«جمهور» جمهورية شانوح في مزارع شبعا وصل تاركاً قطعانه تسرح وتمرح على طول «خط» المواجهة في تلال كفرشوبا وبركة شبعا. فلاحو «الوزاني» تركوا حقولهم. كل روّاد «سوق الخان» وصلوا. و«الرفيق» أبو خالد ترك حانوته الصغير في البقاع الغربي وجاء حاملاً راية حمراء صغيرة وهو الذي لم يتعب من المشي و«بكرا راح طل عليك وأنا راجع من بيروت» وكان ينتظر عبورك وارتشاف القهوة معاً و«الحكي» عن زمن مقاوم جميل و«يلا يا عساف صار لازم تكتب شي عن تاريخ المقاومة»، فكنت تبتسم وتقول: «جايي الأيام... بعد ما خلصت المقاومة لاحقين نكتب».أمس، شاع «خبر» عساف أبو رحال. لم يصدّق أهالي القرى في جنوب الجنوب. وحدها رفيقة الدرب، سعاد، وصلتها الرسالة. لم يكن استشهادك بياناً سرياً يوزّع في القرى لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي يوم كانت أم مازن تحتضنه في أسرار فستانها المقدس. وحدها عرفت أن سرّك لم يعد سراً اليوم، وأن رفاقك حملوا النعش ومشوا و«يا ريتك ما رحت على العديسة». لقد جفّ الدمع يا سعاد... أعطي خبزك لمازن ونسرين وجورج، ولا تتطلعي بالصورة المعلقة على جدران الصمت. كان يوماً حزيناً في الكفير الجنوبية، وكانت وجوهاً لم يرها عساف منذ زمن. كانت أجمل السهرات تحكي عن هذه الوجوه، وعن مجد لم يفقد فرحه، وعن مقاومة افتخرت يوماً بأنك أطلقت رصاصاتها الأولى. رحلت باكراً وأنت الذي لم تتعب من الترحال والبحث عن يوم جميل... وعن رفاق غابوا.كان أمس يوم عساف أبو رحال، وكشف كلّ الأسرار المقدسة. وكان يوم سعاد التي أبكت جرس الكنيسة. إنها الكنيسة التي تختزن كل أسرار «قلم الرصاص» ورفاق عبروا... كنيسة لا يعرف سرّها إلا عساف أبو رحال. كل المشاركين أمس لا يعرفون أسرارك، لا أصحاب التمثيل الرسمي ولا حتى الحزبي. وحدها رفيقة عمرك تعرف سرّ أسرارك، فهي الأمينة وحاملة الأمانة من بعدك.. فاترك لها سرّها قد لا تبوح به لأن لا أحد غيرك يعرفه، ويعرف «بريد» صواريخ «الكاتيوشا» ومتى ترسل إلى الرفاق في الأرض المحتلة، وعلى أي درب ستعبر «البغال» محملة ما يسهم في التحرير.
يوم تحرير الجنوب، اقتحمت كلّ السواتر والحواجز ووصلت إلى حاصبيا قبل أن يصل الناس، دخلت إلى مزارع شبعا لتتفقد الصامد الوحيد هناك أبو قاسم زهرة يوم كان لبنان الرسمي لا يدري أو يعلم أن «وطنياً» لبنانياً يعيش هناك وحده صامداً مؤكداً لبنانية المزارع المحتلة. لم تترك «أبو قاسم» بعدما هُجّر من المزارع يوم التحرير الكبير. لاحقته ودوّنت كلّ أخباره بعدما ترك بسطرة وتلالها. لم تنس أبناء «شانوح» ومواجهاتهم اليومية مع الاحتلال في المزارع، ولا «عنزات» محمد عبد العال التي «أسرها» جيش الاحتلال على تخوم المزارع، فأسر أبقاراً «إسرائيلية» لمبادلة قطيعه بها... كتبت كلّ أوجاع الناس هناك ومقاومتهم الصامتة، ولم يكتب أحد عن وجعك ولا تاريخ مقاومتك. الفلاحون هنا يا عساف... قم واكتب عنهم.