غسان ديبة* توجّهت الحكومة اللبنانية في كانون الثاني عام 2007 إلى مؤتمر باريس ـــــ 3 بورقة إصلاحية تضمنت العديد من البنود والإجراءات التي وعدت بتنفيذها في مقابل الحصول على المساعدات من الدول المانحة. وقد تمخّض المؤتمر عن وعود من الدول المانحة، ورُبطت هذه الوعود بالمساعدات المالية بتنفيذ الدولة اللبنانية هذه الإصلاحات بعد تجربة باريس ـــــ 2 التي لم تستطع الحكومات المتعاقبة حتى عام 2007 تحقيقها. وفي عام 2008 وافق الـIMF على قرض بحوالى 77 مليون دولار للبنان ضمن ما يعرف ببرنامج المساعدات الطارئة لما بعد الحرب (EPCA) وذلك «من أجل المساهمة في دعم البرنامج الاقتصادي للبنان لعام 2007». وقد أدى دخول الـIMF على «خط» باريس ـــــ 3 إلى مزيد من الضغط على لبنان من أجل تحقيق هذه الإصلاحات. فقد قال محسن خان مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق «إن الوعود من باريس ـــــ 3 تساوي 7.6 مليارات دولار، هي على فترة 5 سنوات... وإن تحويل هذه الأموال لا يخضع للموافقة المسبقة من الصندوق... لكن الصندوق سيراقب التطورات في لبنان ويصدر تقارير بشأنها... وإنني أتوقع من المانحين أن يأخذوا تقاريرنا في الحسبان عند اتخاذ قراراتهم بتحويل الأموال أو عدم تحويلها». وبالفعل يصدر الـIMF تقارير دورية كان آخرها في تشرين الثاني 2009. وحتى الآن، ونتيجة تأزّم الوضع السياسي والنزاعات التي نشبت منذ عام 2006 بين مختلف القوى السياسية التي تمثّل النظام الطائفي السياسي، لم تُطبَّق هذه الإصلاحات. إذ اصطدم هذا المشروع «الليبرالي» مباشرة بالبنية السياسية لنظام الطائف الذي يعتمد على «ميكانيزمات» التوزيع للريع... هذه السياسة الاقتصادية المعتمدة منذ عام 1992. ومع تأليف حكومة الوحدة الوطنية أخيراً وتقديم بيانها الوزاري والبدء الآن بعملية إصدار الموازنة الجديدة، عادت ملامح باريس ـــــ 3 إلى الظهور في طريقها إلى محاولة «التطبيق» على الرغم من تضمُّن البيان الوزاري بنوداً قد تناقض مباشرة أو غير مباشر هذه الإصلاحات. وتجلى هذا التناقض أخيراً في تأخّر صدور الموازنة نتيجة الحاجة إلى التوافق بين مطالب الوزارات الإنفاقية التوسعية ومحاولة وزارة المالية الإبقاء على عجز الخزينة ضمن حدود معينة كما تتطلبها باريس ـــــ 3 بالنسبة إلى نمو الدين العام إلى الناتج المحلي الذي كان السبب الأساسي لقفز الحكومات اللبنانية إلى الخارج بدءاً بباريس ـــــ 1 وانتهاءً إلى باريس ـــــ 3. وبسبب استمرار هاجس الدين العام الذي وصلت نسبته إلى الـ160% الآن (انخفض عن عام 2006 حيث بلغ 180% بسبب تحقيق لبنان فوائض أوليّة نتيجة عدم إقرار موازنات في هذه الفقرة وإعادة إحياء الضريبة على البنزين والنمو الذي حصل)، فإن الحكومة اللبنانية قد تذهب إلى تنفيذ هذه الإصلاحات، وخصوصاً في مجالي الضرائب والخصخصة بالإضافة إلى «إصلاح» الضمان الاجتماعي و«تحديث» قانون العمل، لأن أحد أكلاف الاستثمار هو عدم المرونة في سوق العمل من حيث سهولة دخول العمال وخروجهم. إن تحقيق هذه الإصلاحات سيزيد من الفجوة في المداخيل بين اللبنانيين ويدفع بالكثيرين نحو البطالة والفقر، وسيؤدي إلى انتهاء مكتسبات العمال والموظفين والطبقتين العاملة والمتوسطة في ضمان التقاعد والعمل. ومن هنا تأتي أهمية بلورة خطة بديلة لباريس ـــــ 3 تتبناها النقابات والقوى السياسية المختلفة وحتى بعض تلك الموجودة في الحكومة. ملامح الخطة البديلة
(1) في السياسة الضريبية:
يجب أن يعي لبنان أن الباب الأساسي لبدء عملية كبح جماح تراكم الدين هو زيادة مداخيل الدولة اللبنانية. إلا أن الإجراءات الضريبية يجب أن تأخذ في الاعتبار التأثير التوزيعي لهذه الضرائب. وبالتالي فإن هذه الإجراءات، بالإضافة إلى تحقيق المداخيل، يجب أن تجعل النظام الضرائبي أكثر تصاعدية. كما على هذه الإجراءات الضريبية أن تأخذ في الاعتبار تأثير النظام الضريبي على الاستهلاك. أولاً: رفع معدلات الضريبة على الأرباح ومن ضمنها شركات الأموال، من أجل رفع حصة الضرائب على الأرباح من 1.5% من الناتج المحلي إلى 3% (أي 500 مليون دولار). ثانياً: رفع معدلات الضريبة على الفوائد (ومن ضمنها ضريبة على فوائد سندات الخزينة) من أجل رفع حصة هذه الضرائب من 1.16% من الناتج المحلي إلى 3% من الناتج المحلي. ثالثاً: رفع ضريبة رؤوس الأموال من أجل رفع حصة هذه الضرائب من 0.37% إلى 1.5% من الناتج المحلي. رابعاً: إجراء تعديل جذري على هيكلية الضريبة على القيمة المضافة (TVA) تشمل تطبيق معدلات مختلفة حسب كمالية السلع وتغيّراً في سلّة السلع المعفاة، مع الإبقاء على حصة الضريبة من الناتج المحلي التي تبلغ الآن 6%. ويهدف هذا التغيير إلى جعل الضريبة تصاعدية، حيث إن الضريبة كما هي الآن هي ضريبة غير عادلة. إذ بيّنت إحدى الدراسات أن الطبقة الأقل دخلاً تدفع معدلاً فعلياً يبلغ 7%، وتدفع الطبقة الوسطى معدّلاً يبلغ 6%، بينما تدفع الطبقة الأعلى دخلاً معدلاً فعلياً هو 4%. وقد بيّنت إحدى الدراسات أخيراً أن رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 12% سيؤدي إلى انخفاض استهلاك الفئات الأكثر فقراً بحوالى 8%، ويرتفع معدل استهلاك الفئات الأغنى بحوالى الـ5% ويزيد الفقر من 28% إلى 31% وإلى 35% في حال الزيادة إلى 15%. خامساً: وضع ضريبة جديدة على الربح العقاري المحقق. فقد بلغت قيمة حجم التبادل العقاري في لبنان في عام 2009 حوالى الـ7 مليارات دولار جبت الدولة من خلالها 1.3% من الناتج المحلي كضريبة على التسجيل العقاري. إن هذه الإجراءات الضريبية مجتمعة ستحقق إيراداً إضافياً للخزينة يبلغ حوالى 1.5 مليار دولار سنوياً، مع المحافظة على الاستهلاك على حاله، فيما النظام الضريبي يصبح أكثر تصاعدية وعدلاً.
(2) في السياسة الاجتماعية وسوق العمل:
أولاً: يجب أن يلتزم لبنان التزاماً كاملاً بتحقيق أهداف الألفية من خفض للفقر وتحسين مؤشرات التنمية الإنسانية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وبالتالي يجب إنشاء «البرنامج الوطني لخفض الفقر» بموازنة تبلغ 5% من مجموع المساعدات والقروض الممنوحة للبنان في باريس ـــــ 3. ثانياً: إن قانون العمل اللبناني يمثّل ضمانة للعمال والموظفين اللبنانيين الذين بذلوا تضحيات كبرى خلال فترة إعادة الإعمار من خلال تجميد أجورهم ودفعهم للضرائب غير المباشرة. وبالتالي، فإن قانون العمل يجب أن يطوَّر بحيث يضمن درجات أكبر من ديمومة العمل وحق التنظيم النقابي والمشاركة الديموقراطية في إطار مفهوم متطور وتقدمي لعلاقات العمل والحوكمة العصرية للمؤسسات. ثالثاً: إن الأنظمة التقاعدية المعمول بها في القطاعين العام والخاص تمثّل الخزان المالي الذي ضمن ويضمن حصول العمال والموظفين على تقاعد لائق وعادل وضامن للتكافل والتضامن الاجتماعي. إن الإصلاح المقترح في باريس ـــــ 3 المدعوم من البنك الدولي بتحويل نظام التقاعد في الصندوق الوطني إلى نظام ترسملي سينقل «المخاطر» إلى الموظف نفسه ويجعله عرضة للتقلّبات في أسعار الأصول والاستثمارات للنظام الترسملي، وهو الإصلاح الذي رُفض أصلاً في الولايات المتحدة نفسها ولم تستطع تحقيقه الإدارات الجمهورية المتعاقبة. أضف إلى ذلك أن الأزمة الأخيرة في الأسواق المالية قد بيّنت هشاشة هذا النظام وتفوّق النظام التقاعدي الحالي بالنسبة إلى ضمان حصول المتقاعدين على أموالهم عند نهاية الخدمة. رابعاً: اعتماد سياسة إسكان جديدة لا تعتمد على الميكانيزمات المالية المتّبعة حالياً على مبدأ زيادة معدلات التملُّك لدى المواطنين. إذ إن هذا النموذج الشبيه بـ«مجتمع الملكية» في الولايات المتحدة و«الرأسمالية الشعبية» في بريطانيا قد أثبت فشله خلال الأزمة المالية، بل كان أحد أسباب هذه الأزمة وبروز «الفقاعات المالية». إن استحداث قانون جديد للإيجارات يضمن قيام سوق تأجيرية ذات آجال عالية بحيث يصبح معدل عقد الإيجار 9 سنوات بدلاً من 3 مع ضمانات مالية للمالك وضمانات إبقائية للمستأجر، يضمن حل مشكلة السكن المرشحة للتفاقم في المستقبل القريب. خامساً: إجراء إصلاح شامل في النظام التعليمي لا يعزز التعليم الرسمي فحسب، بل يدخل تشريعات تسمح بتدخل الدولة من أجل توزيع عادل للمقاعد الدراسية في الجامعات والمدارس الخاصة العالية الجودة لمجمل قطاعات الشعب اللبناني.
(3) الخصخصة:
إن تجارب كثير من الدول أثبتت أن الخصخصة لم تحقق النتائج المرجوّة من تحسين أسعار الخدمات، ناهيك بجودة الخدمات نفسها. ولعل التجربة الأخيرة لتدخل الدولة في الولايات المتحدة وأوروبا لإنقاذ الكثير من الشركات المفصلية من الانهيار، تؤكد أهمية دور الدولة ليس فقط في تنظيم بعض أسواق الإنتاج ومؤسساته، بل أيضاً في امتلاكها. في لبنان، يبدو أنّ وضع قطاعي الكهرباء والاتصالات، إنْ من الناحية المالية أو التجهيز الرأسمالي، لن يسمح بخصخصة تضمن في الوقت نفسه أهدافاً ثلاثة متناقضة هي: خفض الدين العام عبر تحقيق مداخيل عالية من الخصخصة، التجهيز الرأسمالي لشركة الكهرباء لزيادة الإنتاج بحوالى 80%، وضمان رفاه المستهلك من خلال بنية الأسعار في هذين القطاعين. وبالتالي نقترح: أولاً: لا يمكن استعمال العجز الكبير في قطاع الكهرباء، الذي يبلغ حوالى 1.5 مليار دولار (يتأرجح حسب سعر النفط) كذريعة لتخصيص الكهرباء، وخصوصاً أن هذا التخصيص سيزيد سعر الكهرباء بما لا يتحمله لا الاقتصاد ولا المستهلك اللبناني. أما في قطاع الاتصالات، فإن الدولة اللبنانية تحقق فائضاً بلغ في 2009 نحو 1.37 مليار دولار (مدخول ثابت، بل يتزايد). وبالتالي، إذا نظرنا إلى قطاع الـ(Public utilities) في لبنان ككل، نجد أن لبنان يحقق توازناً. وهذا هو المطلوب، ذلك أن هدف القطاع هو تأمين هذه السلع الخدماتية من أجل تعظيم رفاه المستهلك، ويتم ذلك عبر عدم تحقيق أي ربح اقتصادي من هذا القطاع للدول
ثانياً: تبعاً لهذه النظرة، ونظراً لتعذّر التخصيص لهذين القطاعين، يجب أن تنشئ الدولة «الهيئة الوطنية للاقتصاد العام» لإدارة هذين القطاعين على هذه الأسس، وتحقيق الاستثمار العام من أجل تحديث التجهيزات الرأسمالية والتطور التكنولوجي. ثالثاً: استحداث «وزارة التخطيط» و«المصرف الوطني للتنمية الاقتصادية»، وذلك بعد حل مجلس الإنماء والإعمار والمجالس الأخرى. إن هذه المؤسسات ستكون الحاملة الأساسية للسياسات الاقتصادية والتنموية الطويلة الأمد. فوزارة التخطيط تضع أهدافاً اقتصادية وطنية مثل معدلات النمو والاستثمار العام وتوزّع الاستثمار العام بين القطاعات. كما يتضمن عمل الوزارة استحداث «سياسة صناعية» تعيد بناء القطاعين الصناعي والزراعي على أسس زيادة التنافسية للسلع اللبنانية وتطوير قطاعات ذات إنتاجية عالية ووقف التراجع الكبير الحاصل في القطاعات المنتجة، إنْ على الصعيد الوطني أو على الصعيد المناطقي، كما بيّنت الإحصاءات أخيراً. كما أن «المصرف» سيعمل على تأمين التمويل للتنمية عبر تركيز المساعدات الخارجية والموارد الداخلية للدولة فيه، ودمج المؤسسات المتفرقة كـ«كفالات» وغيرها.
(4) السياسة النقدية وسعر الصرف:
إن عدم التناظر بين السياستين المالية والنقدية منذ عام 1992 وحتى الآن، كبّد الاقتصاد اللبناني خسائر كبيرة على مستوى النمو الاقتصادي، وزاد من الهشاشة المالية للاقتصاد، وأدى إلى قيام اقتصاد منحاز، مالياً أو ريعياً. وبالتالي فإن على لبنان: أولاً: إجراء تغيير في أهداف مصرف لبنان من التركيز فقط على استقرار العملة اللبنانية إلى التركيز على استهداف زيادة العمالة واستقرار الأسعار في الوقت نفسه. ثانياً: إخضاع المصرف المركزي لرقابة ديموقراطية ومحاسبة لاحقة لسياساته من مجلس النواب اللبناني، شبيهة برقابة الكونغرس الأميركي على الاحتياطي الفدرالي. ثالثاً: على المصرف المركزي استحداث سلّة عملات من ضمنها الدولار الأميركي واليورو، كمؤشر على تنافسية السلع اللبنانية واستحداث سياسة ربط تضمن التنافسية وتتحكم بالميزان التجاري والجاري. ستؤدي هذه الإصلاحات إلى وضع المالية العامة اللبنانية على سكة الاستقرار المتوسط والبعيد الأمد، وستؤسس لقيام اقتصاد عصري منتج يحقق نمواً اقتصادياً وزيادة للعمالة ووقف للهجرة، مع تحسين توزيع الدخل وخفض الفقر و«الموت الرحيم للريعيين»، وهي الأهداف الأساسية التي يجب العمل على تحقيقها لأن استمرار السياسات الحالية والمرتقبة سيؤدي إلى مزيد من التردي الاقتصادي وموت بطيء وقاسٍ للاقتصاد الحقيقي..