أُحيطت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في الأسبوع الماضي إلى دمشق، بالكثير من الصخب الإعلامي. الرئيس الإيراني متميّز في حقل إطلاق المواقف التي تتّسم عموماً بنبرة عالية، وتذهب إلى الحدود القصوى في الرفض أو القبول. في مجرى ذلك، كان الرئيس الإيراني يتجاوز الخطوط الحمر ويتخطّى المألوف في ما هو معتمد من التقاليد والأعراف، وخصوصاً لدى رؤساء الدول، أو من هم بمثل هذا الموقع في بلدانهم. ورغم ذلك، تجاوز الصخب الإعلامي هذه السمات التي طبعت سلوك الرئيس الإيراني ومواقفه، كما تجاوز أيضاً مسائل محدّدة، من نوع خروج الرئيس أحمدي نجاد منتصراً من معركته الأخيرة ضدّ المعارضة في بلده. نريد هنا القول إنّ المناخ الإعلامي الذي رافق القمة تجاوز أيضاً الرئيس الإيراني نفسه، إلى موقفي كلّ من سوريا وحزب الله، شريكي الرئيس أحمدي نجاد في قمة دمشق «الثلاثية»! ففي صيغ مختلفة في الشكل وفي الأسباب، أعلن كلّ من الرئيس السوري حافظ الأسد (وقبله وزير الخارجية وليد المعلم) والأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، مواقف جديدة، وحتى مشابهة لمواقف الرئيس الإيراني. فالرئيس السوري (ووزيره) ردّ بحزم على التهديدات الإسرائيلية، وسخر من النصائح الأميركية حيال العلاقة مع القيادة الإيرانية. كذلك فإنّ السيّد حسن نصر الله كان قد أطلق قبيل ذلك، في خطابه في ذكرى «القادة الشهداء»، مواقف واثقة وعالية النبرة بشأن القدرة على ردع العدو وإلحاق الهزيمة بعدوانه ومخططاته العسكرية. مصدر الصخب الإعلامي لم ينجم إذًا، عن اجتماع بين الأطراف الثلاثة الذين سبق أن التقوا مراراً، ولا عن مواقفهم المنفردة، وإن العالية النبرة، ضدّ العدو الإسرائيلي. مصدر الصخب الإعلامي يكمن في ما أطلقه قادة كلّ من سوريا وإيران وحزب الله، من أنّ حلفهم راسخ ومستمرّ ومعلن، ومن أنّ هذا الحلف بات يملك قدرات عسكرية كبيرة من شأنها تحويل أيّ عدوان إسرائيلي على أحد الأطراف الثلاثة (فضلاً عن حماس)، إلى حرب شاملة وذات نتائج مختلفة نوعياً عن نتائج الحروب السابقة. لقد أكد هذه الخلاصة كلّ طرف من الأطراف الثلاثة بالطريقة التي تناسبه. فماذا عن هذا الطور الجديد من المواجهة في نطاق الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، المتداخل إلى حدود كبيرة مع مجمل الصراعات الدائرة في النطاق الإقليمي الأوسع، أي في نطاق «الشرق الأوسط الجديد» والواسع الذي يشمل 27 دولة تمتدّ ما بين موريتانيا وباكستان؟! لا شكّ أنّ المشاريع السياسية الأميركية قد مُنيت في اندفاعتها الهجومية والعدوانية، في عهد الرئيس الأميركي السابق، بخسائر كبيرة سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية، ولا شكّ أيضاً أنّ كلاً من سوريا وإيران وحزب الله وحماس قد تجاوز «قطوع» الاستهداف الأميركي لقادته وسياساته، ونجح في ترسيخ وجوده ودوره وفعّاليته، لا شكّ أيضاً، أنّ خسائر الولايات المتحدة مستمرّة الآن، ليس فقط بعد الأزمة المالية الهائلة التي ضربت أسواق المال الأميركية منذ أكثر من سنتين، بل بسبب استمرار التورّط العسكري والأمني الأميركي في كلّ من العراق وأفغانستان وباكستان وبلدان أخرى... كلّ هذا صحيح، وصحيح أيضاً، أنّ المنطقة تعيش الآن فراغاً كان يملأه منذ عام 2007، المشروع الأميركي الشرق الأوسطي والحضور الأميركي العسكري الكبير في العراق وفي المنطقة عموماً. ومعروف أيضاً أنّ محور الاعتدال العربي وحلفاءه في المنطقة قد عجزوا عن أخذ زمام المبادرة في ملء الفراغ، وهم في الحقيقة تحوّلوا أيضاً إلى الدفاع: على تفكّك وضعف وصعوبات شتّى...
هذه الأمور وسواها، هي حقائق في مشهد الصراع الدولي والإقليمي الذي عانته منطقتنا، وعاناه خصوصاً الشعب العراقي والشعب الفلسطيني والشعب اللبناني... وهذه الحقائق ذات نتائج لا شكّ في حصولها لجهة تحسين شروط الصراع في مصلحة المعترضين على الخطة الأميركية، وعلى سياسات التحالف الأميركي ـــــ الصهيوني، وعلى سياسات محور «الاعتدال» العربي وتوجّهاته وتحالفاته، لكنّ السؤال يبقى ما هو المدى الذي بلغه هذا التغيير، وهل بات من النوع الذي قد يفضي في حال حصول عدوان إسرائيلي على أحد أطراف تحالف سوريا وإيران وحماس وحزب الله، إلى نتائج، مهدِّدة للوجود وللمشروع الصهيوني نفسه، في فلسطين وفي المنطقة؟ الواجب هنا يقتضي التمييز بين العامل التعبوي الذي له وظيفة رفع المعنويات واستنهاض الهمم والطاقات، وخطر المبالغة التي لا تقيم كبير وزن لما يمكن أن ينشأ من تناقض بين الأقوال والوقائع. في تجارب العرب الحديثة (أنظمة وحركات سياسية وحركات تحرير...) الكثير من الخيبات التي تولّدت عن تصوير الوقائع على غير ما هي عليه. لا يزال يهدر في آذان جيل الستينيات صوت المذيع المصري أحمد سعيد من إذاعة «صوت العرب»، وهو يهدّد إسرائيل بالويل والثبور إن هي تجرّأت على العدوان... لتؤدّي المواجهة بُعيد ذلك إلى نكسة 1967 الكبرى... وصولاً إلى وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف، الذي وظف مواهبه في استحضار المفردات واستخدامها واشتقاقها ليروّج لانتصارات حاسمة، أما على الأرض وليس في الفضائيات، فقد سقط النظام العراقي، وكان سقوطه مفاجئاً في سرعته في العالم بأسره. ليست المقارنة هنا فعل تطابق بين ما كان من مبالغة وإفراط وإطناب، وبين ما صدر أثناء قمة دمشق (من صخب إعلامي) وبعدها. لا بدّ إذاً من التحذير من الاستعجال، ومن عدم الدقة في التقدير، وخصوصاً أنّ من شأن ذلك أن يصوّر مرّة جديدة، ولا سيّما في بعض مواقف الرئيس الإيراني، إسرائيل دولة مهدَّدة ومستهدفة بالإبادة. هذا الأمر من شأنه التغطية على جرائم إسرائيل، وخصوصاً ضدّ الشعب الفلسطيني على غرار ما حدث في غزة، وما كشفه أو كشف جزءاً منه تقرير غولدستون. من شأن ذلك أيضاً أن يبرّر الاستعدادات والخطط العدوانية الصهيونية، وأن يحجب حقيقة ما تقدم عليه القيادة الصهيونية الراهنة، من مضيّ في تشريد الشعب الفلسطيني من كلّ أراضيه داخل ما يُسمّى الخط الأخضر وخارجه، وخصوصاً حجب عملية الاستيطان الواسعة، فضلاً عن الشعارات العنصرية المستمرّة في الترسّخ عبر التدابير والإجراءات المكرّسة ليهودية (أي لعنصرية) الدولة الصهيونية ضدّ كلّ الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية على حدّ سواء. الأمر الإضافي: إذا قلنا إنّ المجابهة المقبلة ستؤدّي إلى تهديد وجود إسرائيل نفسه، فسيُطرح السؤال، لماذا تأجيل المواجهة إذن، ولماذا ترك المبادرة في يد العدو؟... غير أنّ الواقع هو ذلك، لجهة أنّ إسرائيل ما زالت تملك تفوّقاً حاسماً في الكثير من المجالات، وخصوصاً في المجابهات العسكرية التقليدية (بين الجيوش)، وأنّها ما زالت تتمتّع بتأييد ودعم هائلين من جانب «الغرب» الأميركي والأوروبي. وهي كذلك، تحظى بتواطؤ شبه مكشوف من جانب قوى «الاعتدال» العربي. المسألة هي كيفية التأكيد على الطابع الدفاعي في مواجهة العدو الصهيوني وحماته وشركائه وحلفائه، وفي تعزيز القدرات والإمكانات في هذه المواجهة، ودائماً في مناخ إعلامي متيقّظ ورصين من جهة، ومؤثّر في مواجهة الخنوع والخيبات واليأس والخوف، من جهة ثانية. المبالغة في التقليل من خطر العدو وقدراته، هي، بشكل ما، كالمبالغة في تضخيم حجم هذه القدرات. الأولى تقود إلى الاستسهال والإهمال ربما، والثانية، إلى الخوف والقعود. والنتيجة واحدة في هاتين الحالتين: الخسارة لنا والربح لعدوّنا. الواجب يقتضي إذًا، قيادة المعركة الإعلامية بنفس الجدية والإبداع اللذين خيضت بهما معارك مواجهة العدوان الصهيوني في لبنان، وخصوصاً منها حرب تموز عام 2006!
سعد الله مزرعاني