في تلك الأيام المشهودة من أوائل أيلول 1982، كان لبنان يعيش أحداثًا خطيرة وتحوّلات انعطافية كبيرة، كان من بينها القرار التاريخي بإنشاء «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في 16 أيلول من العام نفسه. أُعلن، إذاً، قرار استئناف مقاومة العدوّ الإسرائيلي المحتل.
تضمّن ذلك بيانًا مشتركًا أذاعه الشهيد جورج حاوي، من منزل الشهيد كمال جنبلاط. حمل البيان توقيع محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، بالإضافة إلى توقيع حاوي، الأمين العام للحزب الشيوعي آنذاك.
شارك في قرار إطلاق المقاومة وعملياتها «حزب العمل الاشتراكي العربي» و«التنظيم الشعبي الناصري». عانق هذا القرار قرارًا مماثلاً اتخذه الحزب السوري القومي الاجتماعي بالانخراط في مقاومة المحتل. حمل الوليد الجديد لكلّ من الأحزاب الخمسة اسم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية». ساهم في عمليات هذه المقاومة مناضلون آخرون وقوى سياسية أخرى فلسطينية ولبنانية... استطاعت هذه المقاومة أن تحرز إنجازات سريعة ومدهشة وتاريخية، كان أبرزها الانسحاب الإسرائيلي السريع من بيروت بعد أيام على دخولها وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا فيها، كذلك الانسحاب الثاني الكبير إلى «الشريط» المحتل السابق، في أواخر 1985. وفي مجرى ذلك أُسقط اتفاق 17 أيار. كما حصل تحوّل كبير على مستوى توازنات السلطة، ارتباطًا بتحالفات مرحلة الغزو الإسرائيلي المحمي برعاية ومشاركة أطلسية دفع أصحابها من أرواح جنودهم وقواتهم الداعمة للغزو ولترتيباته، أثمانًا باهظة! هذه المقدّمة التي تكرّر أمورًا معروفة، ليست سوى تمهيد لذكر بعض الأمور التي رافقت مرحلة الأسابيع الأخيرة والأيام الأخيرة التي سبقت الخروج الفلسطيني من لبنان في الثلث الأوّل من أيلول 1982. الأمر الأوّل هو النقاش الذي دار بين الطرفين اللبناني والفلسطيني، وداخل كلّ من هذين الطرفين، حول وقف النار والتعامل مع مطالب واقتراحات حملها المبعوث الرئاسي الأميركي آنذاك، فيليب حبيب. كان الاقتراح ــــ المطلب، أن تنسحب قوات الثورة الفلسطينية من لبنان منعًا لاستمرار حصار العاصمة ولقصفها الهمجي بعد مرور أكثر من مئة يوم على ذلك! كان ثمة شقّ آخر في موضوع الانسحاب العسكري الفلسطيني، وهو ما تبلور لاحقًا في عملية «أوسلو» بعد عشر سنوات من الانسحاب من بيروت. لكنّ هذا لم يكن مطروحًا على المستوى اللبناني على الأقل ولا معروفًا من الفريق الوطني اللبناني ولا حتى من معظم الفصائل الفلسطينية. دار يومها نقاش بعضه صريح وبعضه خجول حول من يبادر إلى إعلان الموافقة. اتخذ فريق فلسطيني تتزعّمه الجبهة الشعبية ممثلة بأمينها العام الراحل جورج حبش، موقفًا رافضًا للانسحاب. واتخذ فريق الحركة الوطنية ممثلاً خصوصًا بالحزب الشيوعي ومنظمة «العمل الشيوعي» موقفًا يترك للقيادة الفلسطينية أمر القرار بالبقاء أو بالموافقة على الخروج. وكان الشهيد ياسر عرفات الذي وجد في المقر الطارئ لقيادة الحزب الشيوعي ملاذًا آمنًا (في ملجأ مبنى المارينيون الحالي في محلة الحمراء) يدير نقاشًا متعدّد الأطراف. ومن بين هذه الأطراف الطرف التقليدي اللبناني، ممثلاً بالراحل صائب سلام وأمثاله ممّن كانوا يتلهّفون لإيجاد الحل ووقف العدوان والمساومة مع الطرف الآخر الذي انخرط في تحالف خطير مع الغزاة الصهاينة.
ومن مكان إلى مكان تفاديًا لهجمات الطيران الإسرائيلي الذي كان يطارده ليل نهار، كان عرفات ينتهي إلى مبنى المارينيون حيث يحضر أيضًا العدد الأكبر من القادة اللبنانيين والفلسطينيين لاتخاذ القرار النهائي بشأن الانسحاب الفلسطيني العسكري والقيادي من لبنان. في تلك الاجتماعات التي أُتيح لي أن أشارك فيها، تقاربت المواقف إلى حدّ أنّ المعترض حوّل اعتراضه إلى تحفظ مبدئي لا عمليّ. والقوى الوطنية «صاحبة البلد والدار»، لم تضع شروطًا على الخروج الفلسطيني تضمن لها الحدّ الأدنى من الحماية والمشاركة. أما ياسر عرفات، فكان يسير كعادته ببراعة وحنكة، بين نقاط المواقف والمصالح المتقاربة أو المتضاربة، ليبلغ من يعنيهم الأمر، وخصوصًا الأميركيين، موافقة الجميع على قرار الانسحاب العسكري الفلسطيني من لبنان! لم تكن آنذاك القيادة السورية لاعبًا أساسيًا. لقد أصبحت سريعًا كذلك بعد قرارها بمواجهة الغزو بكلّ الوسائل، بما في ذلك عبر تعميق التعاون مع الاتحاد السوفياتي، وعبر تشجيع المقاومة الوطنية ودعمها ضدّ القوات الإسرائيلية والأطلسية في لبنان. الأمر الثاني أنّه بسبب هذا الواقع، كان على القوى الوطنية اللبنانية أن تواجه مرحلة جديدة حرجة، بعد خروج الحليف، واستمرار هجوم الأعداء الذي ما لبث أن اتخذ شكل اجتياح إسرائيلي للعاصمة بيروت، خلافًا للاتفاقات والتعهّدات! لم يكن في الوقت متسع للتأخير والتأجير. وسريعًا ما تعزّز الفرز داخل قوى الحركة الوطنية (التي أُعلن حلّها رسميًا مع بداية الغزو) إلى تيارين: الأوّل يساري، عاد إلى الجذور الأولى لـ«الحركة الوطنية» ساعيًا إلى استلهامها وتطويرها، فكان قرار إنشاء جبهة المقاومة. والثاني ارتدّ إلى مواقع تقليدية محاولاً استنفار عوامل حماية فيها أو في خارجها من أجل البقاء وحماية الدور أو الحصول عليه. والواقع أنّ الخروج الفلسطيني الذي أحدث خللاً جوهريًا في ميزان القوى لغير مصلحة الطرف الوطني اللبناني، قد ترك، بالمقابل، شعورًا بالارتياح النسبي نظرًا إلى ما كان يرتبه العامل الفلسطيني من أعباء في الصراع السياسي الدائر في البلاد. لقد اعتبر الشيوعيون خاصة، أنّ الشروط الجديدة أفضل نسبيًا للتركيز على مواجهة العدو الإسرائيلي وحلفائه الأطلسيين. وقد وجدوا في ذلك، أيضًا، فرصة لتخفيف حدّة الصراع اللبناني ــــ اللبناني، لا بل أملوا أن يتوحّد اللبنانيون ضدّ العدو الصهيوني، وأن يكون ذلك معبرًا إلى الوحدة الوطنية المشروخة بانقسام عظيم في العلاقات والتحالفات ونوعية الصراع وأدواته. الأمر الثالث: لقد استشعر الشيوعيون والوطنيون الجذريون، مسؤولية كبيرة حيال وطنهم ومستقبله ومستقبل دورهم فيه وفق تطلّعاتهم الثورية في تكامل جوانبها التحرّرية السياسية والاجتماعية على حدّ سواء. لكن ما كان يزعج، ولو مؤقتًا (حتى مجيء أندروبوف إلى موقع الأمانة العامة في موسكو) هو برودة التعامل السوفياتي مع الغزو الإسرائيلي للبنان. وهو ما كان موضع انتقاد كاد يصبح علنيًا. وأذكر أنّي ذهبت في تشرين 1982 إلى كوبا في عداد وفد من المكتب السياسي للحزب الشيوعي للقاء القيادة الكوبية. وحيث إنّني كنت رئيسًا للوفد، وبتكليف من «سكرتاريا» المكتب السياسي آنذاك، عرضنا انتقادات واضحة للقيادة السوفياتية، وطالبنا القيادة الكوبية بالمساعدة في نقل تلك الانتقادات وفي العمل على تغيير الموقف السوفياتي وتحسينه! كان مناخ قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، آنذاك، على مستوى عال من التعبئة والجهوزية والاستعداد لمقاومة العدو. وكان الشعور أنّ الخسائر ستكون كبيرة، لكن الإيجابيات ستكون أكبر. ولقد انخرط الحزب كلّه في ورشة تاريخية لمقاومة العدو. ومثّل موقف الحزب هذا متعاونًا مع حلفائه وقوى شعبية عريضة، عامل نهوض وطني استثنائي، ضاعف منه التخلي عن الفئوية والتضحية بفعالية وبصمت من أجل تحقيق المهمة وإنجاز هدف التحرير وطرد العدو. لم يكن الأمر كذلك على الجبهات «التقليدية» الداخلية والخارجية. كان يدور صراع ضارٍ هناك لكسب النفوذ ولإضعاف الخصم. ولقد دخل العدو في هذا الصراع يؤجّجه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. كما استسهل الأشقاء السوريون وحلفاؤهم بعد ضمان تعديل توازنات النظام الطائفي اللبناني، الاعتماد على هذا النظام وآلياته من أجل إنجاح دورهم المقرر في «الطائف» والمكرّس بحكم تحوّلات الوضع وأحداثه في المنطقة، وأبرزها غزو العراق للكويت والتحالف الدولي الذي قاده جورج بوش الأوّل لإخراجهم بالقوة من هناك. تغلّب التقليد الطائفي على الجديد المقاوم والوطني. ضُرب حلم التحرير المقترن بالتغيير. ضاعت المقاومة الوطنية في خضمّ متغيرات سلبية في العالم وعلى المستويين الإقليمي والدولي والمحلي. مبادرة بحجم قيام جبهة المقاومة أمر مطلوب اليوم. والمقصود بعد المساهمة النشيطة في مقاومة مشاريع الغزو الأميركي والصهيوني، بناء خيار وطني لبناني وعربي يطرح برامج صحيحة لمعالجة مجمل الأزمات اللبنانية والعربية في أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بوصفها أزمات متداخلة في صراع من أجل الأرض والبقاء والثروات والحرية والتقدّم على حدّ سواء.
سعد اللّه مزرعاني *