المستأجر الأكثر غباءً: الدولة!

57 مليون دولار يتحمّلها المواطنون لاستئجار مكاتب بكلفة مرتفعة

تملكه الدولة... ولكنه أبشع مبنى وزاري لاستقبال السياح (مروان طحطح)غباء أم أزمة نظام؟ في كلتا الحالتين يدفع المكلفون اللبنانيون ملايين الدولارات من جيوبهم الخاصة، وعبر ضرائب جائرة، لتمويل إيجارات مكاتب الوزارات والمديريات والمؤسسات العامة، فيما الدولة تمتلك أراضي شاسعة في بيروت وخارجها، وتستطيع أن تبني عليها مجمعات حكومية لتوفر على اللبنانيين بعضاً من بنود الإنفاق غير المجدي، الآن وعلى المدى البعيد!

رشا أبو زكيهل من عاقل، في لبنان تحديداً، يملك أراضي شاسعة في بيروت وخارجها، يفضل أن يستأجر بملايين الدولارات بدلاً من تشييد مبنى له على أرضه؟ الجواب البديهي «لا»، فكيف إن كان هذا الشخص غير العاقل هو دولة بحد ذاتها؟ فوزارات لبنان «كلاس»، لا تريد أن تقيم في أبنية ملك لها في الشياح مثلاً، وتفضل أن تدفع ملايين الدولارات أجرة مكاتب في الـ«D.T.»، أي وسط بيروت التجاري! إذ تدفع الدولة اللبنانية أكثر من 57 مليون دولار على إيجارات مكاتب الوزارات والإدارات العامة وصيانتها... هذا هو حجم الاعتماد المرصود في مشروع موازنة عام 2010، وهو مقدّر بالليرة اللبنانية تحت بند «إيجارات وخدمات مشتركة» بـ86 ملياراً و249 مليون ليرة.

وفي التفصيل أن كلفة إيجارات المكاتب وصيانتها تبلغ 32 ملياراً و 360 مليون ليرة، وإيجارات المدارس وصيانتها تبلغ 24 ملياراً و500 مليون ليرة، وإيجارات «عقارات أخرى وصيانتها» تبلغ 29 ملياراً و379 مليون ليرة، وكلفة الخدمات المشتركة بين المالكين 9 ملايين و800 ألف ليرة... لكن لماذا تدفع الدولة هذا المبلغ الضخم لاستئجار المكاتب وصيانتها؟ إذ إن دراسات عديدة نفّذت، وبعضها أقرها مجلس الوزراء، تدعو إلى إنشاء مجمعات حكومية وأبنية للوزارات في المساحات التي تملكها الدولة في بيروت وخارجها. وقد وردت تقارير مفصلة عن إيجابيات اتخاذ قرار كهذا، إلا أن الحكومات المتعاقبة، اتجهت بوزاراتها نحو وسط بيروت، والمناطق العقارية ذات الإيجارات الخيالية، لتحمّل المواطنين من خزينتهم مبالغ طائلة هي أكلاف للإيجارات الباهظة... كل ذلك خدمة لشركات عقارية كسوليدير وإنترا وستاركو وبعض الأتباع في الكثير من الحالات!

دولة اللادولة!

فقد أشار مجلس الخدمة المدنية في تقرير له عام 2006 نشر في الجريدة الرسمية، إلى إمكان إخلاء العديد من الأبنية المستأجرة وبناء أبنية ومجمعات حكومية في العقارات المملوكة للدولة. وأورد التقرير العديد من الأمثلة، منها وزارة الثقافة التي تشغل مساحة 2918 متراً مربعاً بقيمة إيجار، كانت في حينه 560 مليون ليرة سنوياً، أي ما يوازي 373 ألف دولار (خصص له اعتماد في موازنة 2010 بقيمة 600 مليون ليرة). وقد اقترح التقرير البناء في عقار تملكه الدولة في منطقة رأس بيروت قرب كلية الحقوق (سابقاً) مساحته 16 ألف متر مربع، وكان تقدير الكلفة في حينه مليوناً و400 ألف دولار. أي إنه كان بالإمكان تشييد مبنى تملكه الدولة بمبلغ يقل عن إيجار المبنى المستأجر على 4 سنوات!كذلك، تمتلك الدولة مساحة شاسعة في منطقة الأشرفية، وقد اقترح التقرير تشييد مبانٍ لوزارتين على العقارين رقم 3582 و3584، وهي وزارة الأشغال العامة والنقل، بحيث تشيّد الوزارة مبنى لها على مساحة 10000 متر مربع، بكلفة 4 ملايين دولار، للاستغناء عن إيجار كان في ذلك الحين ملياراً و707 ملايين ليرة. والوزارة الثانية هي البيئة، بحيث يُشيَّد مبناها على مساحة 3 آلاف متر مربع بكلفة لا تتعدى مليوناً و200 ألف دولار لتتخلص من إيجار سنوي كلفته 232 مليون ليرة.وكذلك الحال بالنسبة إلى وزارة الخارجية والمغتربين، بحيث دعا التقرير إلى اختيار عقار مستقل عن المجمعات الحكومية للتخلص من إيجار قيمته 711 مليون ليرة سنوياً، على ألا تتعدى كلفة المشروع 4 ملايين دولار... إضافة إلى إقامة مبنى وزارة الشباب والرياضة في حرم الأونيسكو ووزارة الصناعة والعمل والصحة (إضافة إلى المختبر المركزي) ومجمع لأجهزة الرقابة ووزارة الاقتصاد في العقار الرقم 3016 الذي تملكه الدولة قرب مستشفى بيروت الحكومي.فماذا فعلت الحكومات خلال الفترة الماضية؟

هجوم نحو وسط بيروت!

بالطبع، لم تقم الحكومات المتعاقبة بأي عمل من ضمن اقتراحات مجلس الخدمة المدنية، لا بل بدأت الوزارات تنتقل إلى أغلى منطقة في لبنان، هي وسط بيروت، وتدفع بدلات إيجار «مرعبة»! فقد أصدر مجلس الوزراء في عام 2004 قرار نقل وزارة البيئة، لكن إلى مبنى اللعازارية (طبقتان)، وحصل النقل في عام 2005 لتدفع الوزارة إيجاراً سنوياً بقيمة 155 ألف دولار للسنة الأولى، وارتفع إلى 175 ألف دولار في السنوات الأربع الباقية، إضافة إلى تكاليف الخدمات المشتركة واستئجار 21 موقفاً للسيارات! وهكذا انتهت السنوات الخمس في العام الحالي، وبدلاً من مراجعة الذات، والعودة إلى مشروع تشييد مبنى للوزارة، وافق مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة على تجديد عقد الإيجار لمدة 5 سنوات أخرى، علماً بأن الإيجار ارتفع إلى 317 ألف دولار سنوياً في السنوات الثلاث الأولى، على أن ترتفع القيمة إلى 340 ألف دولار في السنة الرابعة، و362 ألف دولار في السنة الخامسة، على الرغم من أن مجلس الخدمة المدنية دعا وزارة البيئة إلى عدم رفع قيمة الإيجار في السنتين الرابعة والخامسة، أي إنه لم يقتنع بمبرر للزيادة على الإيجار المتفق عليه في السنوات الثلاث الأولى. وشدد على ضرورة تشييد مبان حكومية على اراض تملكها الدولة «توفيراً في نفقات الاستئجار المتزايدة، ولا سيما في المباني الواقعة في وسط بيروت التجاري التي يبلغ سعر المتر المربع المبني فيها مبالغ طائلة».أما وزارة الاقتصاد والتجارة، فقد انتقلت من منطقة الحمرا إلى العازارية كذلك، وها هي تدفع 315 ألف دولار سنوياً (وفق مشروع موازنة 2010)، وكذلك أصبح مبنى ستاركو مقصداً للوزارات الـ«كلاس»، من وزارة شؤون التنمية الإدارية، والمديرية العامة للنقل البري والبحري (367 ألف دولار)... أما في ما يتعلق بوزارة الخارجية والمغتربين، فقد اختير مكان إقامة الوزارة، إلا أنّ المبنى القديم أُبقي في بئر حسن، على الرغم من أنه استؤجر لـ«وزارة المغتربين» التي أُلغيت. ولا تزال الدولة تدفع إيجار هذا المبنى حتى عامنا هذا، حيث رصدت في موازنة عام 2010 نحو 510 ملايين ليرة، لأن هذا المبنى تعود ملكيته إلى عبد الله بري نجل رئيس مجلس النواب نبيه بري!أما بالنسبة إلى المكان الجديد لإنشاء مبنى جديد لوزارة الخارجية من دون المغتربين، فاختيرت المنطقة التي تحتلها سوليدير. وبالطبع في عملية التفاوض بين الدولة و«شركة إعمار وسط بيروت»، فإن الدفة طبعاً لمصلحة الشركة كالعادة. إذ عرضت شركة سوليدير على الدولة أن تبادلها عقاراً مساحته 5366 متراً مربعاً في منطقة الصيفي، بعقارين بالمساحة نفسها تمتلكهما الدولة في وسط بيروت. إلا أن لجنة الخبراء المكلفة الكشف على العقارات موضوع المقايضة أكدت أن هذه المقايضة مجحفة بحق الدولة؛ لأن عقار الشركة مقيّد، فيما عقارا الدولة غير مقيّدين... وعلى الرغم من هذا الغبن استمر المشروع.

إنها مشكلة نظام

لم تكن مطالبات مجلس الخدمة المدنية محصورة بعام 2006، بل تعود إلى عام 2000، حيث أُلفت لجنة وفق قرار مجلس الوزراء، لوضع دراسة تتعلق بتشييد مجمعات حكومية. وقد وضع مجلس الخدمة دراسات وتقارير عديدة بشأن موضوع الأبنية المستأجرة، وأكد أن إنشاء مجمعات حكومية من شأنه توفير الاستقرار للإدارة العامة

 

وتخفيف العبء عن الخزينة، إضافة إلى تجميع الإدارات العامة في مجمعات تسهّل على المواطنين الوصول إليها من دون تكبّد كلفة باهظة تفرضها شركة سوليدير في مواقف السيارات القليلة التي خصصتها لوسط بيروت الحيوي، وتسهل كذلك عملية الرقابة على الأجهزة المختصة والأعمال المشتركة كالحراسة وأعمال الصيانة والنظافة وغيرها... ويشير رئيس شركة رامكو العقارية رجا مكارم في هذا الإطار، إلى أن تشييد الوزارات على أراض تملكها الدولة من شانه أن يوفر الكثير من الأموال على الخزينة، إضافة إلى أنها تكون قد حصنت نفسها من ارتفاع الإيجارات الذي يحدث كل ثلاث سنوات، إذ إن الدولة ـــــ كما أي مواطن ـــــ مصلحتها في البناء والشراء، لا استئجار الأبنية.ويشير مكارم إلى أنه في معادلة المفاضلة بين بقاء الإيجارات القديمة وبناء وزارات جديدة على أراضٍ تشتريها الدولة، تكون الدفة لمصلحة إبقاء الإيجارات القديمة، وخصوصاً أن كلفة بناء المتر المربع أصبحت توازي 1000 دولار في بيروت، إلا أن الدولة استأجرت أخيراً وفقاً لعقود الإيجارات الجديدة، وتدفع أكلافاً مرتفعة، منها مثلاً إيجار مكاتب وزارة التنمية الإدارية في ستاركو، وهنا من الأفضل للدولة التوجه نحو التشييد. ويشرح مكارم أنّ بإمكان الدولة كذلك أن ترفع عوامل الاستثمار في الأراضي التي تملكها، وتستطيع أن تعطي نفسها حق زيادة الاستثمار، فتستطيع توفير استخدام أراضٍ إضافية، وكذلك لديها الكثير من الأملاك الخالية، إذ تستطيع أن تبني عليها، وكذلك تستطيع أن تبيع بعض الأراضي الغالية لتشتري أراضي أرخص لإقامة مجمعات حكومية. فمثلاً، تتألف الأرض التي أقيم عليها قصر المؤتمرات من 100 ألف متر مربع، وسعر المتر الواحد 20 ألف دولار، وبالتالي يمكنها أن تبيع هذه الأرض لشراء أراضٍ أخرى تخصصها للأبنية الحكومية، إذ يراوح سعر المتر المربع الواحد في سهل الدامور بين 350 و400 دولار، ويمكن شراء مساحات شاسعة فيه لبناء مدينة حكومية، ما يقلل من زحمة السير في بيروت. وكذلك تكون الوزارات في منطقة أقل كلفة وقريبة من بيروت.أما رئيس «الدولية للمعلومات» جواد عدرة، فيلفت إلى أن المشكلة لا تتعلق بقدرة الدولة على بناء مجمعات حكومية أو عدمه، بل هي مشكلة نظام، إذ إن النصائح والدراسات والتقارير التي دعت إلى إخلاء الأبنية المستأجرة وبناء مجمعات حكومية مكانها، أُخذ بها، لكنها استُخدمت بطريقة ملتوية، حيث خرجت الدولة من الأبنية الرخيصة التي تدفع فيها إيجارات قديمة، أو التابعة للنافذين ليعمد هؤلاء إلى تأجيرها، لتبدأ بتشييد أبنية واستئجار أخرى بمبالغ طائلة... ويلفت إلى أن تقرير مجلس الخدمة المدنية عن إخلاء بعض المباني لانتفاء الحاجة إليها قد ارتكز على تحقيق وفورات مالية آنية، بحيث نصح المجلس بإخلاء بعض المديريات والمباني، فيما معظم إيجارات هذه المباني هي إيجارات قديمة وذات كلفة زهيدة وكان بإمكان الدولة مطالبة مالكيها بتعويضات مقابل الإخلاء، وخصوصاً بعد استئجار مبان جديدة بكلفة تفوق عشرات أضعاف كلفة الإيجار السابقة، منها مثلاً الموافقة على إخلاء مكتب السياحة في باريس والقاهرة وكلفة إيجار الأول لا تزيد على 55 مليون ليرة والثاني 3 ملايين ليرة سنوياً.كذلك، تورد «الدولية للمعلومات» أن العوامل السياسية والمصالح الشخصية تدخل في عملية إلغاء بعض عقود استئجار الأبنية الحكومية، بحيث تخسر الدولة ويربح أصحاب العقار، ومن الأمثلة على ذلك، إخلاء مبنى كلية الإعلام في الكولا الذي تملكه نقابة المهندسين ونقل الكلية إلى مبنى الجامعة اللبنانية في الحدث.

عدد الثلاثاء ٥ تشرين الأول ٢٠١٠
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة