لم يكن عليه إذاً أن يفعل شيئاً/ كان عليه أن يتسلق إلى طرف الطريق/ تاركاً وراءه/ حبلاً من الخطى التي فكّها عن قدميه/ وأن يقف هناك كالصاري (...)/ ويترك المصابيح تظلم بالترتيب/ خلف كتفيه». لم يكن عبّاس، ليلة الثلاثاء، يريد أن يفعل أكثر من بطل قصيدته القديمة. حاول أن «يتسلّق» إلى الضفّة الأخرى من «الرينغ» في الظلام الدامس، لأسباب مجهولة وغامضة طبعاً. لكنّه هذه المرّة، لم يتأخّر «بضع دقائق فقط»، كما هي العادة، عن موعده (الثالث) مع السيّارة التي صدمته... دائماً يخرج عبّاس بيضون من جسده ليكتب. يعطينا انطباعاً أنّه يكتب من خارج جسده، أنّه يعيش خارج حياته. يهيم فوقها كالأرواح، يتلصّص على نفسه كما نتلصّص على الآخرين. حياته ليست ملكه: يمكن أن يعيرها، أن يرثيها، أن يهجرها، أن يستبدل بها أخرى، أن يبدّل فيها قطعاً، فهو ميكانيكيّ حياته. «يستيقظ كالعادة/ فيجد الحياة هربت/ لكن الأمر لا يهمّ/ هناك قطع غيار بديلة/ ولا يحتاج إلى كلّ هذه الوفرة ليعيش/ الحياة كثيرة عليه»،
ما الذي أخذك إلى جسر فؤاد شهاب في مثل هذا الوقت يا عم عبّاس؟كما كتب لبسّام حجّار. الحياة؟ لعلّها أفلتت منه في يوم بعيد، ثمّ تعوّد الفكرة. كان عليه أن يحاول استعادتها في القصيدة، بشكل عابر. أن «يعيرها لخدمه يعيشونها عنه». كان عليه أن يمضي وقته في استعادة كل ما يفلت منه: الوقت، المعنى، المشاعر، الصور، الأفكار الكبيرة، الذكريات. الألم. ملفّ الأخطاء. الوجوه الهاربة التي تسيل في دمه. النص الذي لا يقفله عادة، وكثيراً ما ينسى إكمال الجمل، إذ تضيع التتمّة في غياهب اللغة ـــــ الفكرة، تغرق في خضمّ الصور والمفاهيم. النص، كما حياته، يتركهما مشرّعَين على تأويلات واحتمالات كثيرة، مؤجّلة غالباً.اتصلت جميلة صباح أمس لتقول إنّ صديقنا في المستشفى (مهلاً، قرأت ذلك في قصيدة سابقة). صدمته سيارة، وهو يجتاز جسر فؤاد شهاب، الذي يصل بين البيروتين. ما الذي أخذك إلى جسر فؤاد شهاب في مثل هذا الوقت يا عم عبّاس؟ حتّى قنّاصة الحروب الماضية لا يعملون في الليل. من سريرك المسيّج بجمهوريّة الأصدقاء، سيكون عليك الآن أن تصمد، وأن تتحلّى بالشجاعة. هذا طلب شخصي. لا بدّ لنا من أن نستمرّ قليلاً ريثما نفقأ معاً «عين السيكلوب».