ب)في ظلّ صعوبة الوصول إلى تسوية سياسيّة، يظهر بوضوح أن رئيس الحكومة غير قادر على إدارة فريقه. وإذ تتميّز حركته السياسيّة بالبطء الشديد، أُطلقت رصاصة الرحمة على مفاعيل القمّة الثلاثيّة ومحور الـ«سين ــ سين»
ثائر غندور بعدما رُفع طويلاً شعار بناء الدولة، وقد استعمله الأفرقاء كافة من دون حسيب أو رقيب، باتت الكلمة السحريّة الآن هي التسوية. الجميع يريد التسوية. التسوية صارت هدفاً أول. ومعظم المنادين بها يُدركون أن المطلوب ليس إنجاز خطوة وطنيّة تهدف إلى إعادة بناء الدولة على أُسسٍ ديموقراطيّة. المطلوب اليوم تسوية. المطلوب حقنٌ للدماء. تدنّى الهدف كثيراً. لكن هذا الهدف بعينه بات صعب المنال. الساسة أنفسهم الذين يتحدّثون عن خوفهم هذا يرفضون الإفصاح عنه علناً. «لا أُريد أن أُرعب الناس»، يقول أحد المطّلعين جدياً على حقيقة الاتصالات السياسيّة المحليّة والإقليميّة. يتحدّث آخر، وهو وزير في الحكومة اللبنانيّة بقلق، قائلاً: «المهم الحفاظ على ما بقي من مؤسسات، والجيش في طليعتها». يكثر الكلام في الصالونات السياسيّة عن صعوبة هذه التسوية. بات يتندّر كثيرون، بسخرية غير القادرين على تغيير الأمور، على أن المشهد المقبل سيكون «جميلاً»: صدام السنّة والشيعة. هو مشهد يُشبه تكراراً بشعاً لخلاف علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان بعد مقتل عثمان بن عفّان. معاوية أراد كشف «الحقيقة» قبل تولي رابع الخلفاء الراشدين الحكم. رفض المبايعة قبل الكشف عن الحقيقة. علي بن أبي طالب تعهّد بكشف القتلة، طالباً من معاوية مبايعته. هي الفتنة الكبرى، كما يُسميها العديد من المؤرخين. مشهد قديم يتجدّد بشكلٍ آخر. لا أحد يعرف أين سينتهي المشهد. يقول أحد المسؤولين السياسيين المؤثّرين الذي يرفض ذكر اسمه، إن من يقول إنه يعرف ما الذي سيحصل كاذب. هناك سيناريوات تُتَداوَل، لكن أيّ منها سيتحقق؟ هذا يعتمد على ردّة فعل «الفريق الآخر». يُكمل المسؤول قائلاً إن هناك من يميل لسيناريو معيّن فيتبنّاه، لا أكثر ولا أقل. طرفان مؤثّران في اللعبة السياسيّة يرغبان في الوصول إلى تسوية ما، كيفما كان، منعاً لإحراج نفسيْهما، وحقناً للدماء، ولمعرفتهما أن الاشتباك يُضعفهما مثلما يُضعف البلد: ميشال سليمان ووليد جنبلاط. أمّا الأطراف الأخرى، فيُمكن اختصارها بحزب الله وتيّار المستقبل. يتحدّث بعض الهادئين ـــــ المطّلعين، على أن كلا الطرفيْن عليه أن يخطو خطوةً إلى الأمام لاستدراك الوضع. حزب الله يعرف أن هدف المحكمة تطويقه وسوقه إلى المشنقة. لذلك، فإن عليه التعامل بهدوء أكثر مع هذا الملف، وعدم الذهاب إلى الفتنة، «لأن من يُدير المحكمة، أي إسرائيل، لا يُريد إلّا الوصول إلى الفتنة». أمّا تيّار المستقبل، فيكثر الحديث حوله، وخصوصاً عن رئيسه ورئيس الحكومة اللبنانيّة سعد الحريري. وبغض النظر عن وصف النائب عمّار حوري الكلام الذي نُشر في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن رئيس الحكومة سعد الحريري، بأنه «وسام شرف»، إلّا أن هناك الكثير ممّا كتبه سمادار بيري يتقاطع مع وصف العديد من السياسيين اللبنانيين للحريري، فهو «مثير للشفقة لا يكفّ عن عرض نفسه كضعيف الشخصيّة، سياسي خائف يفضّل الهرب إلى باريس أو زيارة أسياده السعوديين كلّما تعقدت الأوضاع». اليوم سعد الحريري هو رئيس حكومة كلّ لبنان، الذي يجب أن يكون الحاكم القادر على إمساك تفاصيل اللعبة السياسيّة، وخصوصاً أن لديه صلاحيّاته وسبعين مجلساً وصندوقاً تخضع لسلطته المباشرة، ولديه كتلة نيابيّة هي الأكبر في البرلمان، إضافة إلى حلفائه... يُفترض أن يستطيع الحكم من خلال هذا. لكن الواقع عكس ذلك. هنا المشكلة. فالصراع السياسي الدائر اليوم يتمحور حول عنوان واضح: المحكمة الدوليّة وقرارها الظني، «الذي أصبح بوضوح وسيلة ضغط بيد إسرائيل، تعمل من خلالها على تفجير الوضع في الداخل اللبناني، في الوقت الذي أعلن هذا الكيان، القضاء بالكامل على الآمال الباقيّة في أذهان المتوهّمين حصول نهاية إيجابيّة لسلام أوسلو عبر إعلان يهوديّة إسرائيل، ما يعني تحويل عرب 1948 إلى مواطنين درجة ثانية بالكامل»، يقول أحد المطّلعين رافضاً ذكر اسمه. يستذكر الرجل قولاً لقائد الثورة البولشفيّة لينين: «خطوتان إلى الأمام خطوة إلى الوراء. فهمها سعد الحريري بخطة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء». في هذا السياق، يأتي بيان كتلة المستقبل يوم أمس، التي شدّدت على أن التركيز يجب أن يبقى «منصباً على كشف حقيقة من ارتكب هذه الجريمة والجرائم المرتبطة بها، وذلك عبر المحكمة الدولية، مشيرة إلى أنه منذ وقوع جريمة الاغتيال البشعة وما تلاها من جرائم، كانت هناك محاولات مستمرة ومتعددة لتضييع هدف كشف الحقيقة وحرف المحكمة عن مسارها والتشكيك في صدقيتها». أضافت الكتلة أن «كشف محاولات التضليل المتعددة للذين أدلوا بإفادات تعوزها الصدقية أو ما يسمى شهود الزور هي مسألة لا يمكن أن تتضح معالمها ويتحدد أشخاصها إلّا في ضوء صدور القرارات الاتهاميّة والأحكام عن المحكمة بسبب سريّة التحقيق». ما جاء في بيان كتلة المستقبل يُشبه كثيراً «خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء»، إذ إن هذا الكلام يتناقض مع ما قاله الحريري لجريدة «الشرق الأوسط» عن شهود الزور. يأتي ما قاله نائب رئيس تيار المستقبل أنطوان أندراوس، لقناة «أخبار المستقبل» في الثالث من هذا الشهر عن أنه لا يجد زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للبنان أنها زيارة صديق، مشيراً إلى أن «نجاد من خلال هذه الزيارة يكمل رسالته إلى العالم بأن لبنان أصبح ساحة لديه»، في الوقت الذي يُقيم الحريري غداءً على شرف نجاد. كذلك الأمر حين يتحدّث الحريري عن حماية المؤسسات ويخرج النائب في كتلته خالد الضاهر ليُعلن أن الجيش سينقسم. إذاً، بحسب هؤلاء السياسيين، هناك مشكلة جديّة عند الحريري في إدارة فريقه. مشكلة تدلّ على أن الرجل غير ممسكٍ بفريقه بالكامل. ما يحصل في وزارة المال دليل على ذلك، إذ يُمسك الرئيس فؤاد السنيورة بمفاصل هذه الوزارة عبر مستشار وزيرة المال، نبيل يموت. كذلك يُمسك السنيورة بمفاصل كتلة المستقبل عبر تعاميم يوميّة للنواب.
مشكلة جديّة عند الحريري تدلّ على أنه غير ممسك بفريقهمن أخطر الأمور هو البطء الذي يُميّز حركة رئيس الحكومة
حزب الله يعرف أن هدف المحكمة سوقه إلى المشنقة، لذلك عليه التعامل بهدوء
الأمر الأخطر، هو البطء الذي يُميّز حركة رئيس الحكومة. لا أحد يعرف ما الذي ينتظره الرجل لضبط فريقه، رغم تعهّداته الدائمة بذلك لأطراف عدة. لا أحد يعرف ما الذي يمنعه من إعادة صوغ علاقته بدمشق بعدما قُطعت. وليد جنبلاط أعلن بوضوح خريطة الطريق للحريري: حاسب شهود الزور، وأنت من أكّد وجودهم، لتتحسّن علاقتك بدمشق. بطء الحريري وتلكؤه، أطلقا رصاصة الرحمة على مفاعيل القمّة الثلاثيّة التي جمعت في بيروت في نهاية شهر تموز الماضي الملك السعودي عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد والرئيس ميشال سليمان. بمعنى آخر، بحسب مصادر رفيعة المستوى، إن ما يُسميه الرئيس نبيه بري الـ«سين ـــــ سين»، بات غير قادر على إنقاذ البلد من المصير الأسود الذي يتجه إليه، «وفي هذا الوقت تُكمل إسرائيل والولايات المتحدة تنظيم الفتنة المقبلة إلى لبنان». ثم أعطى جنبلاط رسالةً ثانيةً واضحة للحريري عبر قناة الجزيرة، عندما قال إن عملاء إسرائيل قاموا بالكثير في شبكات الاتصالات، فاتحاً الباب أمام الحريري ليوقف مفاعيل القرار الظني. يُردّد بعض السفراء الغربيين في بيروت، وهو ما يوافق عليه بعض السياسيين، أن المحكمة باتت خارج قدرة التأثير اللبنانيّة، وهنا يتحدّث أحد السياسيين بوضوح: «المطلوب صمام أمان داخلي لتفادي تأثير القرار الظني على السلم الأهلي». عدا ذلك، عندما تتكلّم عن فساد هنا وعن تعدّيات ومخالفات قانونيّة هناك، يأتيك جواب واضح: «كبّر عقلك، مين فاضي لهذا الموضوع». لا أحد يملك اليوم ترف البحث في تطوير مؤسسات الدولة؛ لأن المطلوب اليوم هو تسوية، أي تسوية تحفظ رأس المقاومة.
عدد الاربعاء ١٣ تشرين الأول ٢٠١٠