معروف سعد بعد أربعين عاماً مَن يريد قتل صيدا

معروف سعد بعد أربعين عاماً مَن يريد قتل صيدا
06 Mar
2015

نصري الصايغ - السفير

ثمّة من لا ننساه. نعثر عليه مراراً. قد لا يكون معنا. ربما لأنه فينا. تقترب من مدينته. يطل من بحرها. أفق الصيادين هناك، صفحة ترتسم عليه صورته. تفتح أبواب المدينة، تجده في شوارعها. تعبر إلى قلب المدينة، يسير إلى جانبك ويسبقك إلى أزقتها. تنحرف إلى بساتينها، تعرف من برتقالها، عرق الذين يكدحون في تلوين ليمونها. ثمّة من لا ننساه. كأنه لا يموت إلا جسداً. ربما لأننا ننتمي إلى جيل ضد النسيان، ولأننا نسأل عن ماضينا لبؤس حاضرنا، وانسداد الضوء. تجلس إلى شاطئ صيدا. بحرها مفتوح وسماؤها مفتوحة وأذرعها كذلك، وهو ما زال مقيماً فيها. كأنه على موعد مع غدها. تسأل عن الماضي، تأتيك صورته: وجه تتمثل في قسماته طيبة وعزيمة. تتعرّف إلى جسد بضخامة قضية، وبخطوات لها ثقل على الأرض، بروح خفيفة قادرة على التحليق: إلى فلسطين وصل مراراً، إلى العروبة وصل وأقام واستقام، إلى عبد الناصر انحاز وتميّز وعلى نهجه نضالاً وكفاحاً، إلى السلاح يمتشق: سلاح يسدَّد في الاتجاه الصح، منعاً لاحتلال في المقدس من الأرض، ضد استعمار لأمة تستحق، لحضارتها وتراثها، أن تكون حرة، واحدة، مستقلة. هل هذه صيدا بعد أربعين عاماً من دمه؟ تريد أن تعرف أكثر؟ مَن يكون معروف سعد قبل أربعين عاماً؟ مَن يكون بعد أربعين عاماً؟ غريب. إنه مختلف جداً عمّن عرفناهم ونسيناهم، وغريب أكثر عمن عرفناهم وعايشناهم حتى اليوم، وغريب أكثر عنا نحن الذين خسرنا وتقاعدنا عن الأمل. عرفته دائماً من بعيد، ما عرفت دينه ومذهبه. كانا معروفَين بشكل طبيعي. لا هو أعلن انتماءه السياسي لدينه ومذهبه، ولا أنا كنت في صدد البحث عن دين الناس لأصنّفها. غريب، كم كان غريباً عمن كانوا في السياسة، لا لوثة طائفية، لا في حبه ولا في عائلته ولا في مواقفه. لم تكن عروبته بحاجة إلى عصب ديني، فالدين، يمكن أخذه على كل العقائد. أما العروبة يومها، فقد كانت تحتاج إلى مواقفه. في سيرته جراح وسجن وجرأة وتحديات. لغيري أن يسردها أفضل مني. غير أني أميّز بين هذه السيرة وبين مَن تاجر بالعروبة، فعندما كبت، طلَّقها وتزوّج نقيضها الكياني، ونقيضها المذهبي، ونقيضها المتهاون مع الأم الحنون، بحضنها الأميركي. هو لم يكن كذلك. أما زالت مدينته تتشبّه به، أم.. في كل وادٍ يهيمون؟ لذا، ثمّة من لا ننساه. نعثر عليه في ماضيه لأنه كان مع نفسه، وأقام فينا. ها نحن بعد أربعين عاماً على استشهاده، في معركته إلى جانب الفقراء الصيادين، ضد مَن قرر أن يحتل البحر. أُسقط شهيداً، وفي الظن أن الرصاصة تقصّدت حذفه. كان المناخ آنذاك، مناخ تدرُّب على الحرب. والحرب كانت بحاجة إلى شرارة. وكانت الشرارة الأولى، وأعقبتها الثانية. بقتل معروف سعد، بدأت مقتلة لبنان. هو قتل في موقع النضال الجميل. في ما بعد، قاتلنا وقتلنا، في مواقع النضال الغلط. أسفرت شهادة معروف سعد عن بقاء القضية نقية. أسفرت الحرب اللبنانية عن قتل وتصفية القضية. ولولا المقاومة التي خرجت من رماد لبنان المحتل العام 1982، لكان لبنان خرقة مخزية. بعده، احتُلّ البحر واحتلت الشواطئ، ما أبشع الوطن عندما يصير عقاراً، براً وبحراً وسماءً! مَن يكون معروف سعد؟ لا تسأل عن سلالته. هذا غير مهم. لا تسأل عن زعامة عائلته. هذا شأن مفقود. لا تسأل عن ثروته. هذا أمر مُخزٍ. فشهادة الفقر أصل جيد. شهادة الثروة أصل رديء. ذقنا من ثماره المرة، سياسات الاستتباع والشراء والارتهان والفساد. ولا تسأل عمن يتكئ عليه، أو، بلغة السياسات الركيكة، من يدعمه. حَيْفٌ ذلك عليه وإزاءه. هو من تبرع بالدعم. سيرته مبتوتة في ما أقدم عليه، تأسيساً على ما يفكر فيه وما يعتقد به ويؤمن به وما يسعى لأجله. فلسطينيته، أخذته مرتين إلى مقاومة الاحتلال. وطنيته قادته ليدخل السرايا متحدياً الفرنسيين. عروبته سجّلت عنده وشم السياسة الذي لا يُمحى. كيف يُمحى وشم في الروح؟ هو يُملي مواقفه على ذاته. عناده، منحه قوة المقاومة. إيمانه، جعل فعله أقرب إلى محاكاة النصر وهو في قلب المأساة والمحنة والنكبة. ولا تسأل لماذا كان الفقراء عائلته. عمال البساتين المتروكون لإقطاعات وتجّار، لم يجدوا من يقف إلى جانبهم من البيكوات الذين ورثوا الأرض وما عليها ومَن يخدمها... صيادو البحر، من يرد عنهم أمواج العوز والفقر. فالبحر الكريم، غدار كذلك. والبحر الثري، مطمع لأصحاب المال والنفوذ. لا تكفيهم ثروة اليابسة. يشترون البحر كذلك، أو يردمونه من أجل موطئ مال أو نزوة ثروة أو شهوة سلطة. تسأل عنه غداً، فتجده. لم ينسحب بعد. نسيانه فوق طاقة الممحاة في الذاكرة. تسأل عنه، تجده في إرثه النضالي. إرث موقّع بالدم والشهادة. مَن حاول قتل مصطفى سعد؟ مَن قتل أفراداً من عائلته؟ غريب. عائلة منذورة سياسياً لتكون مختلفة. قريبة من القلب فمع رجاحة العقل والموقف، شعور بأن الإحساس بالظلم مرتفع جداً. الإحساس بالحياة الأفضل توق أجمل. الإحساس بواجب فلسطين، صلاة، حرام عدم أدائها في مواقيتها الدائمة وفي الحج إليها، كل يوم، على امتداد الأرض العربية لا الحلال. تسأل عنه غداً، تجده في المقاومة والممانعة. هو كان كذلك. هذه المقاومة من روحه وروح مَن كان مثله. لا ينفصمان. آمل ذلك برغم المصاعب. تسأل عنه غداً. لن تجده في السياسة اللبنانية الراهنة، حيث الطائفية دين وسياسة وعقار وتبعية. لن تجده حيث المال دين وسياسة وعقار وشراء ذمم. لن تجده مدعواً أو متسللاً إلى سفارات، يعرض خدماته، كمن يعرض أعراضه للبيع. ولن تجده في خندق يحمل فيه السلاح المذهبي أحقاد التاريخ، ليعيد إنتاج «الفتنة الكبرى» مرة تلو مرة. تسأل عنه، فيطلّ عليك بتقاسيم وجهه وطيبة قلبه وإحساسه الجميل. لا تسأله عن شيء، اسأل نفسك. وإن سألك عما آلت إليه حالنا، فاخجل واصمت. نحن في أسوأ حال. الأمة على وشك الزوال، والإيمان بالضوء يحتاج إلى فعل إيمان جديد، لم نهتدِ إليه بعد. معروف صيدا الصيداوي جداً، عندما كانت صيدا عاصمة أبعد من جغرافيتها وأرحب من مذاهبها وأعمق في انتمائها إلى ما بعد الكيانية وما فوق المذهبية. صيدا التي كانت من عواصم الأمة، هل ما زالت كذلك؟ تصعب الإجابة بعد التسيّب القومي والتسيُّد الديني والتشظي المذهبي، والشتات الفلسطيني، داخل الاحتلال وخارجه. في ما مضى، كان إرث معروف سعد خفيف الوطء، لوضوح الرؤيا وبسالة الموقف. كم هو ثقيل هذا الإرث النضالي، على تنظيمه وأصدقائه ومَّن كافحوا نسيانه؟ منذ أربعين عاماً، قتلوا معروف سعد. بعد أربعين عاماً، ثمّة من يريد قتل صيدا.

الأكثر قراءة