يارا خواجة - السفير
يرفع إصبعيه في الهواء. تخاله للوهلة الأولى يرفع شارة النصر. تقترب محاولاً فهم ما يقول بصوت متعب من ألم العملية الجراحية التي أجريت لساقه اليمنى. ترتب أفكاره، في رأسك أنت: هما اثنان، والأصح إبنان كي لا نقع في فخ تحويل الضحايا إلى أرقام. له ابنان في سوريا لم يرهما منذ اضطر إلى مغادرة حمص بعدما دُمر منزله. وله آخر في الأردن وابنتان في لبنان تزورانه متى سنحت لهما الظروف. أصيبت رجله بقذيفة. بقى عشرة أيام تحت القصف المستمر، قبل أن ينجح بالوصول إلى لبنان، ثم إلى المستشفى بعد جهد جهيد. عم محمد رجل سبعيني لا تحتاج إلى أن تسأل عن عمره، فخطوط يديه وتجاعيد وجهه تروي شقاوة صباه، نضج عمره ووجع عمر الحرب. لم يتخيل يوماً هذا الجد الودود أن جمعة أولاده وأحفاده في دارته في حمص ستتشرذم بهذه الطريقة وفي هذه السن. دموعه الهادئة التي تغسل لحيته البيضاء الخفيفة تبوح بملوحة الواقع. شفاهه التي بهتت ما كلت تطلب الموت.. للراحة. في المناسبة، نظارات عم محمد بقيت في حمص، تحت الأنقاض، مثل تفاصيل حياته. تلك التفاصيل التي تمر خفيفة، بلا قيمة، في يومياتنا، فلا ندرك أن فقدانها قد يسلبنا أبسط حقوقنا في رؤية وجه من يكلمنا، من يعالجنا، من نحب. حسنا، نحن في أحد المستشفيات التي تقوم اللجنة الدولية للصيب الأحمر في لبنان بدعمها لمعالجة جرحى الحرب في سوريا. هنا، كل غرفة تخبئ حكاية: هبة طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات، تمسك يد والدتها، فمنذ أُصيبت باتت كل الأصوات بالنسبة إليها.. أصوات قذائف. يوسف يكبر هبة بعامين، تعلق بعنق والدته فور خروجه من غرفة العمليات، بعدما زرع له الأطباء لحما إضافياً ليقوى على مد ساقه من جديد والمشي عليها. سناء سيدة خانها القدر نصف خيانة، فقد استطاعت أن تحمي أولادها الثلاثة من الشظايا التي استقرت في جسدها المكور فوقهم. أما أحمد، لاعب كرة القدم الناشئ، فينتظر بشوق أن تُركب له ساقان صناعيتان كي يعود إلى شغفه. كثيرة هي القصص، كبيرة هي المأساة. يرفع اصبعيه في الهواء، تخاله للوهلة الأولى يرفع شارة النصر، لكن عم محمد لم يحتج إلى نظاراته التي بقيت تحت أنقاض بيته في سوريا، مع ولديه، كي يرى أن الضحية تبقى ضحية.