أحكام الطوائف الظالمة

أحكام الطوائف الظالمة
20 Jan
2015

تشير بيانات السفارة القبرصية إلى إجراء أكثر من 800 عقد زواج مدني للبنانيين ولبنانيات في قبرص عام 2011، فيما تعقد في لبنان عشرات الزيجات المدنية المعلّقة على قرار وزير «لا يشجّع» الزواج المدني بما أن قبرص ليست بعيدة، حسبما قال. المشاكل الناجمة عن قوانين الأحوال الشخصية الطائفية تتراكم، والأحكام الصادرة عن المحاكم الطائفية أصبحت ظالمة، ما يستدعي إصلاحاً فعلياً لهذه القوانين وإقرار قانون مدني للاحوال الشخصية للذين ما زالوا يتأملون فرحاً لهذا البلد

يفا الشوفي- الاخبار

 

اقترنت دينا بزوجها عندما كانت في الثانية والعشرين في المحكمة الجعفرية وأنجبا طفلة. وقعت مشاكل كثيرة بينهما دفعت بدينا إلى اتخاذ قرار الطلاق، إلا أنها لم تستطع. على الزوج أن يوافق على تطليقها، من هنا بدأت عملية الابتزاز والتهديد. قدّمت نسرين تقريراً الى المحكمة يوثق الإصابات البدنية التي لحقت بها نتيجة ضرب زوجها لها.

هددها بإلقائها من الشرفة والزعم أنها انتحرت. لا تزال المحكمة ترفض منحها البطلان.

تحملت ميشيل الضرب لسنوات كي لا تفقد حضانة أولادها. عندما تقدمت بدعوى حل زواج أمام المحكمة الإنجيلية رُفض طلبها. حل الزواج لا يتم إلا إذا ثبت أن الطرف الآخر شرع في قتل المدعي. رفض القاضي تطليق نور (سنية) لأن «الضرب لم يتجاوز صفعة أو اثنتين» وللزوج الحق في إرغام زوجته على المعاشرة الجنسية. كل هذا الوجع الحاصل خلف جدران البيوت يبقى صامتاً، ليصدح بالمقابل صوت الوحوش عالياً في وجه المقهورين. فمنذ خمسة أيام أطل وزير الداخلية نهاد المشنوق ليعلن أن قبرص ليست بعيدة لمن يرغبون في الزواج مدنياً. هكذا قرر أن يصدر وزير الداخلية فتوى يقطع فيها الفرص أمام الحالمين بدولة مدنية تنتشلهم من هذا القهر. مشى الوزير على خطى المفتي محمد رشيد قباني الذي أخبرنا منذ سنتين بالتمام أن كل من يوافق على الزواج المدني ولو اختيارياً هو مرتدّ وخارج عن الدين. فيما أطلق أحد «الجهابذة» في إحدى المحاكم نظرية قالها حرفياً: «بسبب التغييرات الهرمونية المصاحبة للدورة الشهرية، يتعذر على النساء القيام بالاختيار الصحيح، فكيف إذا منحهن حق الطلاق؟!».

يدرك المطالبون بالزواج المدني أن معركة القوانين المدنية هي أشرس المعارك التي يخوضونها في وجه هذا النظام الذي يشكّل حكم الطوائف جزءاً أساسياً من تركبيته، وقد يكون أمتنها. فثالوث السلطة المؤلف من رجال السياسة والمال والدين يُدرك جيداً كيف يحكم السيطرة على «الناس» ويمنعهم من التحوّل إلى «مواطنين». بالأمس أصدرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» تقريراً بعنوان «لا حماية ولا مساواة: حقوق المرأة في قوانين الأحوال الشخصية اللبنانية». قامت المنظمة بتحليل 447 حكماً قضائياً حديثاً أصدرتها محاكم دينية تنظر في قضايا الطلاق والحضانة والنفقة بين عامي 2009 و2012. تضيء هذه الأحكام على قوانين الأحوال الشخصية الطائفية المتعددة والتي يبلغ عددها 15 قانوناً، ويغيب عنها القانون المدني. قد تختلف هذه القوانين في تفاصيلها، لكنها جميعها «تنصب الحواجز أمام النساء أكثر من الرجال الراغبين في إنهاء زواجهم، بدء إجراءات الطلاق، ضمان حقوقهن المتعلقة بالأطفال بعد الطلاق أو تأمين حقوقهن المالية من زوج سابق». كما تنتهك حقوق الأطفال ولا سيما أخذ مصالحهم الفضلى في الاعتبار في أي قرارات قضائية تتعلق بمصيرهم.

يرسم التقرير الخطوط العريضة لأربع إشكاليات تنتقص من حقوق المرأة بشكل خاص بفعل تطبيق هذه القوانين وذلك من زاوية: انعدام المساواة في الطلاق، المعادلة غير المتساوية بين حضانة الأم وولاية الأب، التهميش الاقتصادي وقصور أوجه الحماية من العنف الأسري. فمن بين 150 حكماً صادراً في دعاوى الطلاق أمام المحاكم السنية والجعفرية، هناك 3 أحكام فقط صدرت بناء على استعمال الزوجة حقها بالعصمة (أي بالطلاق بعد إدراجه كشرط في عقد الزواج)، فيما لم تبادر أي من السيدات اللواتي قابلتهن المنظمة إلى إدراج هذا الشرط في عقود زواجهن. كذلك كشفت الأحكام أنه من بين 27 حكماً أصدرتها محاكم سنية لمنح الحضانة للأب، التزم القاضي تلقائياً بسن حضانة الأم في 15 قضية. وفي 9 قضايا أسقط حضانة الأم قبل السن المقررة قانونياً لأسباب مثل الانتماء الديني المختلف، غياب التنشئة الدينية السليمة، الزواج مرة أخرى والسلوكيات الاجتماعية «المشبوهة». وقد بلغ متوسط النفقة المحكوم بها أمام المحاكم السنية والجعفرية في 38 قضية 300 ألف ليرة شهرياً، ويبرر القضاة هذا التدني بقيمة النفقة بالاقتصاد المنهار وانخفاض الحد الأدنى للأجور. إضافة إلى ذلك، أمر القاضي الزوجة في 23 حكماً من أصل 40 حكماً صادراً في قضايا طاعة ومساكنة، بالعودة إلى المنزل وإلا فقدت حقوقها المالية، وفي 21 منها أمر الزوجة بمساكنة زوجها حتى حينما قررت أنها لا تريد مواصلة الزواج. يستعرض التقرير عدداً كبيراً من الأحكام التي تثبت التمييز الحاصل في هذه القوانين ضد المرأة، إلا أنه لا يتطرق إلى جوهر الموضوع الذي يجب الإضاءة عليه باستمرار. عندما نتحدث عن التمييز في قوانين الأحوال الشخصية ضد المرأة، علينا الانتباه الى أمرين: أولاً أن فعل التمييز هو ثقافة يبنيها النظام ويعتمدها بشكل دائم بوجه المرأة، السوريين، الفقراء، العمال… ثانياً أن استهداف المرأة هنا لا يتعلّق بجنسها أو بكونها امرأة، إنما باعتبارها فئة ضعيفة ومقهورة. لا يتوقف التقرير عند طرح حل وحيد هو إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، إنما يضع توصيات تتعلق بتعديل وإصلاح قوانين الأحوال الشخصية الدينية والمحاكم الطائفية القائمة وممارسة رقابة عليها لضمان امتثالها للالتزامات الحقوقية. فإقرار قانون مدني بموازاة القوانين الطائفية لن يقضي على أشكال التمييز. في حال إقرارنا قانوناً مدنياً اختيارياً، ماذا نفعل بالذين يرغبون في الزواج دينياً؟ هل نترك هذه الفئة المظلومة تخضع لقوانين جائرة؟ هنا روح الموضوع، لماذا نتحدث عن إصلاح القوانين الدينية أيضاً؟ لأن المعركة ليست مع الدين كونه ديناً، إنما ضد استخدام الدين من قبل النظام كأداة لقهر الفئات المهمشة. معركة تقوم على التصدي للقهر الاجتماعي الذي تتعرض له الفئات الضعيفة، سواء كانت مؤمنة أو ملحدة. فالتطرف الديني المنتشر هو وليد القهر الممارس على الفئات المهمشة مجتمعياً، وقوانين الأحوال الشخصية إحدى هذه الوسائل، وهذا القهر لا يلغى إلا بإحقاق العدالة الاجتماعية والمساواة وحقوق الأفراد.

الأكثر قراءة