ليس «عادياً» أن تُغتصب عاملة أجنبية، بعد ضربها وإذلالها، بحجّة تأديبها، ثم لا ينتفض كل من يعنيه الأمر. حصل ذلك قبل أيام، حيث هُتكت روح عاملة إثيوبية، وديست كرامتها الإنسانية
محمد نزال - الاخبار
ما زلنا نعيش زمن الرقّ. دعكم من كل المعاهدات والاتفاقيات، كل الدساتير والقوانين، كل النواميس التي تحظر العبودية وتعاقب عليها. المسألة في الرأس أولاً، في الذهنية والعقلية، في الموروث المتأصل، الذي لا يبدو أننا غادرناه بعد... هنا المسألة قبل أي مكان آخر. هل من «العادي» أن يمرّ خبر اغتصاب عاملة أجنبية، بعد ضربها وإذلالها، على يد «رجل» يعمل في المكتب الذي «استقدمها» من الخارج، بهدف «تأديبها» كما قيل، ثم لا يضج المعنيون بالخبر؟
ألا يمسّ هذا الكرامة الإنسانية، للجميع، قبل أن يمسّ جسد تلك العاملة الإثيوبية المدمّى؟ حصل ذلك في بلدة كوسبا - الكورة (الشمال) قبل أيام. سيخرج من يقول، وهذا بالمناسبة يخرج باستمرار، إن هذه القضية «بسيطة» مقارنة بكل ما نراه من جرائم قتل في لبنان، وخارج لبنان، وبالتالي لماذا نتوقف عندها؟! يغيب، ربما، عن بال هؤلاء أن ما حصل، وما يحصل، في لبنان ومحيطه، إنما هو من أجل «الحرية» أو «الكرامة» (وفق مختلف الأيديولوجيات). فبالتالي، هل من لا يخشى على كرامة إنسان ضعيف عنده، كعاملة أجنبية، تراه يكون مستحقاً لهذه الكرامة في مكان آخر؟ وعندها أي قيمة يبقى لـ«نضاله» في أي قضية أخرى؟
كانت السكرتيرة في الخارج تسمع كل شيء، وكأن هذا هو «العادي» هناك
كان بإمكان شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي أن لا تورد الخبر، في بيان مستقل، وأن تبقي عليه طيّ الكتمان ككثير من أخبار الحوادث اليومية. ولكن كان للمقدم جوزف مسلّم رأي آخر. فعلها ونشر الخبر، معمماً إياه على وسائل الإعلام، لأن «القضية ليست عادية، وبالتالي هذه رسالة إلى كل من يفكر أن يستضعف فئة العاملات، ولهذا طلبنا من كل عاملة أو من باستطاعته مساعدتها في الحالات المماثلة، أن تتصل أو يتصل بنا على رقم الطوارئ لمتابعة الأمر». خيراً فعل مسلّم. ثمّة ما لم يرد في بيان قوى الأمن، لكن علمته «الأخبار» لاحقاً، وإليكم الرواية كما حصلت، علماً أن التحقيقات لم تنته بعد، وبالتالي يُنتظر أن تظهر معلومات إضافية بعد. بدأت القصة عندما تذمرت سيدة سبعينية، من عاملتها الإثيوبية ب.ا. (33 عاماً). اصطحبتها إلى المكتب الذي استقدمتها منه، الكائن في بلدة كوسبا الشمالية، وتديره سيدة لبنانية، وهي محامية. يُقال إن الأخيرة لم تكن في المكتب، فشكت السيدة العجوز عاملتها إلى السكرتيرة، وهي ل.س. (24 عاماً)، في طريقة بدت اعتيادية. ليس مهماً، هنا، الخلاف بين السيدة العجوز والعاملة لديها؛ فهذا بالأصل، لو كانت الذهنية سليمة إنسانياً، فإنه ما كان ليخرج عن إطار خلاف عادي بين موظف وصاحب عمله. لكن الحديث هنا عن «عاملة أجنبية»، أي تلك «العبدة» المكرّسة كذلك، بمفعول رجعي، نتيجة أعراف بالية معمول بها في لبنان. إنه «نظام الكفالة» وتوابعه، الذي يجعل من تلك العاملة «عبدة» أو «أمَة»، ولكن هذه المرة ـ وبأفظع مما جاء في أنظمة الرق القديمة ـ تُسبغ عليه الشرعية لنصبح أمام «سوق نخاسة» تحت ظل القانون! أهانت تلك السكرتيرة العاملة. قرّعتها بكلامات قاسية. طبيعي هنا أن نسمع عبارات من قبيل «ليش مش عم تفهمي يا حيوانة»، أو «أنا بفرجيكي يا بقرة». وبالفعل، لقد «فرجتها». اتصلت بأحد العاملين في المكتب المذكور، ووظيفته بالأصل سائق خصوصي، ولكن يبدو أن لديه وظيفة أخرى. ما هي يا تُرى؟ إنه الذي «يُربّي» العاملات الأجنبيات في المكتب. إنه الشخص الذي يأخذ دور «المطاوع» هنا. حضر على وجه السرعة، وراح «يبهدل» العاملة ويهينها، قبل أن يدخلها إلى غرفة منفردة في المكتب. راحت تصرخ، وهو يضرب، تصرخ أكثر فيضرب أكثر، والسكرتيرة في الخارج تسمع كل شيء، وكأن هذا هو «العادي» هناك. استخدم حزام وسطه في ضربها. كأنه ذاك السوط، الذي لطالما جُلد فيه العبيد على مر التاريخ، في صورة نمطية يأبى البعض جعلها من الماضي. عُرضت لاحقاً العاملة على طبيب شرعي، فأثبت وجود كدمات على جسدها، واللافت وجود كدمات في «المناطق الحساسة». لقد ضربها على أعضائها الجنسية. الكارثي في الأمر، بحسب المتابعين، أن ذاك «المتوحش» أعجب بجسد العاملة أثناء ضربها، اهتاج من عنفه على جسدها، فقرر اغتصابها، وهذا ما كان. لقد تم «تأديبها» أخيراً. طُلب منها أن «تسمع كلمة معلمتها»، وإلا فستنال العقاب ذاته كل مرّة. تُرى، أي روح بقيت في تلك العاملة؟ إن فعلت، غداً، ما يُخالف القانون، فهل من سيلومها؟ تحديداً إن لم ينصفها القانون، في معاقبة الفاعلين، فهل هناك من يمكنه أن يضع عينه في عينها إن فعلت ما لا يُرضي القانون؟ كان لافتاً أن العاملة هي التي ادّعت لاحقاً بما حصل معها، أمام مفرزة طرابلس القضائية في وحدة الشرطة القضائية، بمعرفة السيدة التي تعمل لديها. هذا يطرح سؤال: كم عاملة حصل معها الأمر نفسه، وربما بما هو أفظع، ولم يعلم بأمرها أحد؛ لأنها لم تدّع أمام القوى الأمنية؟ هل يُتصور أن هؤلاء العاملات يعرفن طريق المخافر؟ من حُسن الحظ أن القضية حصلت بالتزامن مع مناوبة القاضي غسان باسيل في النيابة العامة. باسيل، الذي كان أوقف قبل نحو سنة رجلاً وامرأة، بتهمة ضرب عاملة أجنبية، وجد أن ضرب العاملة في كوسبا بالطريقة المذكورة، فضلاً عن اغتصابها، يستدعي بكل راحة ضمير أن يوقف الموظف في المكتب (الجلاد) والسكرتيرة أيضاً. هذا ما نقلته إلى «الأخبار» مصادر حقوقية متابعة للقضية. في إفادتها أمام المحققين، ذكرت العاملة علامات فارقة في جسد الذي اعتدى عليها، لتأكيد أنه نزع ثيابه في تلك الأثناء، قبل أن يأتي تقرير الطبيب الشرعي ويشير إلى الأمر. التحقيق مفتوح الآن، وسيُحال على قاضي التحقيق، بما يعنيه ذلك من احتمال استدعاء صاحبة المكتب، لمعرفة إن كان ما حصل «عادة ثابتة» أو حادثة. ربما شكلت الحادثة التي حصلت، فضلاً عمّا سبق من حوادث مشابهة، مناسبة لإعادة النظر في طبيعة عمل تلك المكاتب المُستثمرة في «استقدام العاملات الأجنبيات». الخبراء في هذا المجال يؤكدون أن لا رقابة مستمرة على تلك المكاتب، ولا على آليات عملها بنحو مباشر، ما يستدعي وضع خطة من قبل وزارة العمل للتفتيش باستمرار؛ إذ لا يمكن انتظار كل عاملة مغتصبة، أو معتدى عليها، حتى تدّعي بنفسها أمام القوى الأمنية. ومن المفيد السؤال هنا عن دور نقابة هذه المكاتب المذكورة، وأي دور لها في حماية العاملات، في ظل ثقافة «استعباد» لا يبدو أنها في طريقها إلى الاندثار في هذه البلاد البائسة. ربما بات لزاماً، هذه الأيام، أن يُردد على مسامع من يعنيهم الأمر مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحديداً نص المادة الأولى منه: «يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء». كذلك سيكون من المفيد التذكير بالفقرة الأولى من ديباجة الإعلان المذكور: «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية الثابتة، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم».