سحر مندور - السفير
للمرأة في لبنان مطالب كثيرة تفصلها عن موقعها السويّ كشريكة في المواطنة. وهي مطالب تعيها شريحة واسعة من المجتمع، وتراها تصطدم دورياً باستحالة تحقيقها في ظل النظام الحاكم. وحال «الاستحالة» هذه، وجدت صداها خلال الأسبوع الماضي في موضوعٍ شديد الدلالة على حال المرأة هنا، إذ خرجت علينا السيدة التي عيّنتها الدولة اللبنانية كنائب رئيس «الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية»، لتؤكد «استحالة» تأكيد وقوع الاغتصاب الزوجي، وبالتالي «استحالة» تجريمه. هذا التصريح يشي بسذاجة التعامل الرسمي مع المجتمع المدني أولاً، ومع النساء تالياً، ومع المواطنين أخيراً. ولكنها ليست سذاجة فعليّة، وإنما هي آلية تعاملٍ تعتمد السذاجة كأسلوب قمعٍ مهموم وحنون في آن. آلية تبدي الاهتمام بالعناوين والمشاكل، ترفع الحاجبين لها بقلبٍ محروق، قبل أن ترميها في بوتقة النسيان، بعد أن تغلّفها برداءٍ من الموضوعية الإضطرارية والـ«أنا أتفهم وجهة نظرك، لكن علينا أن نعترف بأن..». قالت السيدة إن هناك استحالة في معرفة ما يجري في غرف النوم المغلقة. ولا بدّ أنها تعرف أن الجرائم التي تحصل في عين الشمس نادرة. لا بد أنها تعرف أن معظم الجرائم ينأى بنفسه نحو الغرف المغلقة، الزوايا المعتمة، السرّ. فإما أن تستقيل العدالة من استقصاء كل الجرائم من أساسه كونها بسوادها الأعظم تجري في الغرف المغلقة، أو تجد هذه العدالة لنفسها الوسائل العادية (وليس الخارقة) لدخول الغرف المغلقة ذاتها لكن بحثاً عن الاغتصاب الزوجي هذه المرة. ولكن جميعنا يعرف أن العدالة تناقض المشهد الحاكم هنا. وجميعنا يعرف أن الاستفادة من الوضع القائم هي الدافع الأول لخنق مطالب التغيير. جميعنا يعرف أن الاستحالة، هي ملهاة خطابية يراد لنا أن نتلهى في نفيها قليلاً، إلى حين. فلنتلهَّ قليلاً قبل الخوض في الدوافع الأساسية لرفض تجريم الاغتصاب الزوجي، لا ضرر من الخوض في بعض المسلّمات. فإلى جانب الاستفادة الفئوية من إرساء القمع على حدود الجسم كي لا يتجاوزها مطلب العدالة، جميعنا يعرف أن سعة ذهن المسؤول الرسمي هي الإطار الذي يحكم نقاشنا العام هنا: فإذا استعاذ نائبٌ بربه عند سماعه ذكر المثلية، فعلى القانون أن يبقى مستعيذاً بربّه من المثلية لحين خروج النقاش العام من سلّم المعتقدات الشخصية. وإذا وصل إلى سمع مسؤول أن ثمة اغتصاباً زوجياً، سيتخيل استحالة إثبات وقوع هذا الجرم في غرفةٍ في بيتٍ في قرية نائية في الجرود اللبنانية، وستغدو هذه الاستحالة مبدأ تمشي عليه الأمّة لحين اختراع آلة تمكّن من رؤية هذا السرير. في واحدة من مراحل النمو حسبما يعرّف بها علم النفس التحليلي، يعجز الطفل عن تخيّل العالم خارج وجوده هو فيه. فإذا سئل طفل: من سبق الآخر إلى الوجود، أنت أم أبوك؟ يجيب: أنا، لأني لا أذكر رؤية أبي قبل وجودي في الحياة. وهو لن يتأخر ليكتشف أن الكون الخاص به وحده هو الكون الذي يدور حوله، بينما الأرض هي التي تدور حول الشمس، والقانون يدور حول العدالة للجماعة. وإلى حين اكتشاف وجود تقنيات يعتمدها الكوكب لتأكيد حدوث اغتصابٍ زوجي في الغرفة المغلقة، سيبقى موقعٍ محوريّ في العمل النسوي الرسمي في لبنان مكرّساً لتأجيل البتّ بهذه القضية، يرمي لنا بفرضية ذاتية خلف الأخرى ننتفض لننفيها تباعاً، والوقت يمرّ. وقد حدثت التجربة ذاتها مع تسويف حق المرأة في منح جنسيتها لعائلتها: رُمي في وجهنا الخلل الذي سيصيب التوازن الطائفي في حال إقراره، فاجتهدنا في تفنيد هذا الخلل حتى اتضح زيفه، ما استوجب أن ينكشف للشمس الخطاب الحقيقي الذي يحكي صراحةً عن قصور المرأة وعدم كفاءتها لامتلاك الحق بالجنسية. فقال النائب نعمة الله أبي نصر الدرر في هذا السياق: سيغرر بها أي كان ليمتلك جنسيتنا، وهي كائن هشّ يسهل التغرير به، علينا أن نلجمها كي لا تدنّس حديقتنا الخلفية. وكلما نفينا فرضية في مسألة العنف الأسري والاغتصاب الزوجي، فستقفز أمامنا أخرى، حتى بلوغ مرحلة الخطاب الصريح الذي لا يخجل من نفسه. وفي حالة الاغتصاب الزوجي، ظهر هذا الخطاب الصريح على لسان رجال الدين أساساً، وهو خطابٌ لا يمكن لمسؤولة في هيئة المرأة أن تعتنقه صراحةً، فوجب عليها الخروج بحجج ذاتية تؤجل الاستحقاق. وبعدما نؤكد إمكانية استقصاء الجرم، ستعود المسؤولة وتسائل معنى هذا الجرم من أساسه: هل يمكننا أن نسمي الجنس بين رجلٍ وزوجته، اغتصاباً؟ المسألة ليست في ما قالته السيدة، ونحن نعرف الكثير عن الغرف المغلقة. والدولة أيضاً تعرف، عندما تشاء أن تعرف. تراها تعرف لما يكون الطرفان من جنسٍ واحد، أو يمارسان الحب خارج إطار الزواج. في هاتين الحالتين، لا تعيق «القانون» غرفٌ مغلقة، وتجده قادراً على السعي وراء غايةٍ تحافظ على «النظام» وترسيه أولاً على جسم المواطن. نحن نعرف ذلك، ونعرف أن هذه الحجّة متوافرة للتأجيل والتسويف وفتح نقاشات جانبية لا طائل منها. حجّة ومتوافرة وتتيح الاهتمام والتأثر من دون أن يستوجب ذلك أي تغيير يمسّ دقّة توازن الوضع القائم. أما نحن الباحثين عن العدالة بين الحجج المتراكمة فيمكننا أن نلاحظ بعد سنوات من المتابعة في ملف العنف الأسري، معادلة مثيرة: قد نتمكّن يوماً من الفوز بتجريم الضرب، ولكن سيصعب علينا تجريم الاغتصاب الزوجي. وفي ذلك معنى. الغرف المغلقة الضرب هو تعريفاً فعلٌ عنفيّ، لكنه أيضاً فعل تأديبٍ في قاموس رجال الدين. قالوا لنا عند خروجهم الثائر ضد حملة تجريم العنف الأسري، إن الضرب بالنسبة إلى الرجل هو كالجيش والشرطة بالنسبة إلى الدولة: ذراعان عنفيان لإرساء السلطة. الغاية هنا (أي الطاعة) تبرّر الوسيلة (أي الضرب)، مع أن الدين يدّعي أنه لا يقوم على هذه المعادلة الدنيوية. وبعدما علا الصوت المطلبي بأسماء النساء اللواتي قتلن في معرض «التربية» (والقتل جريمة في كتب هذه الأديان)، بدأت «البراغماتية» تغزو الخطاب المناهض لتجريم العنف الأسري، لإرساء حدود غائمة بين الضرب التربوي والضرب الجرمي.. فبدا التجريم إمكانيةً. أما الاغتصاب الزوجي فمعادلته أشدّ جوهرية، لا مطرح للبراغماتية فيها. تجريمه ليس إدانةً لفعلٍ، بقدر ما هو تحريرٌ لجسد من سلطة حرّة في ما تنزله به. في العنف الأسري، تراهم يناقشون الضرب ودرجاته. في الاغتصاب الزوجي، لا مفر من نقاش ملكية المرأة لجسمها، وفي إطار الزواج أيضاً. فحدود البراغماتية استُنفدت في نقاش الاغتصاب خارج الزواج: أين مسؤوليتها في اغتصابها؟ هل استدرجته؟ هل تدّعي عليه لغرضٍ في نفسها؟ ثم، ولنفترض أنه اغتصبها، فهل يُسجن لفعلٍ كهذا؟ أليس الأجدى بنا الاكتفاء بتزويجه إياها كرامةً لوالدها، وشقيقها؟ البراغماتية في تجريم الاغتصاب حلّت وتحلّ خارج الإطار الزوجي، لأن المرأة فيه تكون تابعة لذكرٍ آخر لا بد من المفاوضة لحفظ حقوقه. أما ضمن حدود الزواج فلا مطرح للاغتصاب، ولا للمفاوضات. في هذا السياق، يصبح تجريم الاغتصاب الزوجي اعتداءً على حقوق الرجل الذي أرضى الوالد والشقيق والمؤسسة بعقد زواجٍ. ما يرجعنا إلى جوهر المسألة: تجريم الاغتصاب الزوجي هو اعترافٌ بامتلاك المرأة لجسمها، وتنازل عن مكتسب للرجل. وهو، كالثورة على الديكتاتورية، قلبٌ لمعادلة القمع القائمة: إن الاغتصاب في السرير الزوجي يشبه «قوات مكافحة الشغب» في الشارع.. كلاهما يشهران صكّ ملكية في مواجهة الحريّة. القانون، لا الدين منح الدين الرجل وعداً يفيد بأنه يمتلك كامل الحق في المرأة: هو رأسها في الكنيسة، وهو القوّام عليها في المحكمة الشرعية. والاستهلاك الاقتصادي قام على هذه المعادلة، والمحاصصة السياسية كذلك، وسواهما الكثير. في جوهر المعنى، المرأة هي أداةٌ وليست الغاية. هي أداة لتأمين اللذة، وأداة لتحريك العجلة الاقتصادية، وأداة لمراكمة الأصوات الانتخابية... هي لا تمنح الجنسية لعائلتها اسوةً بالرجل، وهي تُضرب لتحصل على التربية التي تحتاجها. لذلك، أتى النضال المدني من المجتمع ليستهدف القانون، لا الدين. لن نغيّر ما أنزل الله بقومٍ أو أنزلوه هم بأنفسهم، لكننا قادرون على تغيير ما يُنزله القانون بنا كمواطنين في دولة. إلا أن فصل الدين عن الدولة لم ينجز بعد في مجتمعاتنا، ولذلك فإن النقاش القانوني تلجمه «المسلّمات»، نتاج الدين والأخلاق العامة، وتبقى وصيّةً عليه. ومثلما مشى أتباع رئيس مجلس النواب في مسيرة إسقاط النظام الطائفي ليفرغوا التحرّك من معناه، ومثلما اجترّ أهل الدولة مطلب مكافحة الفساد حتى يئسنا من إمكانية مكافحته، يأتي من يرسي استحالة معرفة حدوث اغتصاب زوجي، فيقيّد إمكانية التغيير. لكن العدالة مطلب دائم يتخطى عمر الإنسان الواحد، أكان هذا الإنسان مناضلاً من أجل العدالة أو عائقاً أمام إرسائها. العدالة هي مطلبٌ مستمر، إن تحقّق اليوم أو فُرض تأجيله إلى الغد. ومثلما تعتلي السيدات الأوائل المنابر لتدافع عن مكتسبات أوصلتهن إلى هذه المنابر، سننصرف عن هذه المنابر ونمشي في تظاهرة تلو الأخرى، نحكي عن حق الجميع بمكتسباتٍ لا تُقطف من زوج أو شقيق أو أب، وإنما هي مكتسبات عامة تبدأ مع الولادة، وتؤسس للإنسان والمواطنة في هذا البلد. لا هي المرة الأولى ولن تكون المرة الأخيرة التي تصطدم فيها العدالة بخطاب الاستحالة. ولذلك، سنخرج غداً إلى الشارع، بين الثانية والثالثة بعد ظهر غد، لنمشي من المتحف إلى قصر العدل، في تظاهرة أخرى ترفع الصوت ضد الضرب والاغتصاب والفساد والمكتسبات الخاصة، ومن أجل مواطنةٍ سوية في قانونٍ محرّكه العدالة. ويكفي، للتخفّف من ثقل «الاستحالة»، تذكّر لحظة اكتشاف أن الأرض مستديرة: لا بد أن يأتينا يومٌ نسخر فيه بلا غضب من استحالة إثبات الاغتصاب الزوجي، تماماً كما سخر الأسبقون من «ابتكارات» سلطات مرحلية زائلة، كان جلّ همّها حماية مكتسباتها.