أين ترى محمد دكروب في ذاكرتك القديمة، وكم ساهمت هذه الذاكرة في بناء وجدان محمد دكروب وشخصيته الإنسانية والثقافية والفكرية؟
^ أنا لم أعش طفولة مرحة وظريفة ولطيفة لأنني ولدت في عائلة فقيرة وشغّيلة، لكنني انتميت لسنوات قليلة إلى مدرسة السيد عبد الحسين شرف الدين ومن بعدها ابنه جعفر التي صارت لاحقاً «الكلية الجعفرية»، هناك غمرني الأستاذ أحمد حجازي «ابن البادية» (1899- 1971) وزكي بيضون والد الشاعر عباس بيضون برعاية خاصة، ومنهما ومن مجلس السيد شرف الدين بدأت تتراكم عندي ذاكرة ثقافية ووجدت مزاجي يميل إلى هذا النوع من البشر وإلى ما كانوا يجترحونه من نشاطات ثقافية وفنية وأدبية ومسرحية، لم أتأخر عن الاشتراك فيها، ولا أنسى دوري «الذئب» في إحدى المسرحيات التي رعاها معلم اللغة العربية والموسيقى آنذاك، المخرج الراحل محمد سلمان. لكن صدف أن والدي يعمل فوّالاً، وقد شحّ نظره وكثرت شكواه من فقدان غلّته، فاضطر إلى سحبي من المدرسة التي تعلمت فيها أربع سنوات فقط، لأشتغل معه، وكنت حينها لا أتجاوز الحادية عشرة أو الثانية عشرة. لماذا لم تعد إلى المدرسة؟^ لم تجدِ الوساطات التي تولى السيد جعفر شرف الدين حيزاً منها في إعادتي إلى المدرسة، بسبب قلة حيلة أبي المادية، لكنني سرعان ما لجأت إلى المطالعة والقراءة بنهم لا يوصف طاولت حتى الكتب التي لم أكن افهمها؛ قرأت من القصص البوليسية وقصص الغرام، إلى كتب عبد الرحمن بدوي الفلسفية، ومنه تعرفت إلى (فريدريك) نيتشه وأفلاطون وسقراط... لأنني قررت أن أعلم نفسي، وصرت استعير الكتب من هنا وهناك وأقرأ حتى خلال سيري على الأقدام، وبقيت هكذا طوال عمري أقرأ الجريدة وأنا أجوب أرصفة بيروت.بعد الفوّال اشتغلت بائع ترمس وخبز وعامل بناء وفي مشتل زراعي. في هذا المشتل كنت أوزع مياه الشفة على العمال، وفي وقت الراحة أقرأ في سلسلة «اقرأ» التي كانت تنشر لطه حسين و(عباس محمود) العقاد و(إبراهيم) المازني وكرم ملحم كرم، وصرت أقرأ في كل يوم كتاباً، حتى شكلت لي هذه المرحلة مخزوناً ثقافياً أفادني إلى وقت طويل. في عام 1945 بدأت تأتي إلى صور مجلة «الكاتب المصري» رئيس تحريرها طه حسين، وصارت تبيع في صور لوحدها 15 عدداً وكنت أنا وكريم مروة وعلي سلامة نشتريها، وكانت أهم مجلة فكرية عربية. لقد شكلت هذه المجلة الركيزة الثقافية الأساسية لثقافة محمد دكروب وأعطتني مخزوناً هائلاً لم أزل استعين به.عندما أضحيت سمكرياً في دكان أخي، كنت التقي هناك جمعاً من أترابي نتداول القضايا العربية وبدأت تتشكل ميولي السياسية؛ ورحنا نفكر في إنشاء جمعية سرّية في العالم العربي غايتها القيام بثورة تحقق الوحدة العربية، وقتها لم يكن حزب البعث أو حزب القوميين العرب قد ظهرا على الساحة. بعدها بدأت تتكون الأفكار «القومية» عندي، ورحت أناقش القيادي الشيوعي في صور رفلة أبو جمرة (توفي 1995) وكان منفتحاً على مختلف أطياف المدينة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، لقد أثّر فيّ رفلة كثيراً، وكان ينهي كل نقاش معي بعبارة: «أنت شيوعيّ يا محمد». فأرد بعصبية: «أنا قومي عربي، وأنتم قياصرة...».الكاتبكيف تعرفت إلى الكتابة أو الصحافة؟^ في أواخر الأربعينيات، كنت قد بدأت الكتابة، قصصاً عن البحارة والعمال والعتالين وغيرهم، أفكارها ومنابتها من داخل مدينة صور، أطلب من «ابن البادية» محمد حجازي قراءتها، فيصحح لي من دون أن يشطب كلمة، ثم يشرح ويوضح حتى تعلمت منه كثيراً في تلك الفترة، وأنا ببالي أن أكون شيئاً ما، لكن لم تراودني فكرة أن أصبح كاتباً في يوم من الأيام. وقد شجعني الأستاذ أحمد أن أجرب النشر. كانت «الحياة» تصدر ايام كامل مروة، (في النصف الثاني من الأربعينيات) وتنشر رسائل القراء في صفحتها الأخيرة. صرت أرسل إليها صفحة عن شؤون مطلبية في صور، فتنشر لي سطوراً. وعندما نُشر اسم محمد دكروب في الجريدة، مشيت في أزقة صور تتملكني بهجة ما بعدها بهجة وأفكار عن أنني أصبحت كاتباً، يجب عليه أن يطور أداءه وموضوعاته. ثم صرت أكتب القصص وأتلوها على «ابن البادية» فيصححها ويشجعني على النشر، وكانت «التلغراف» لنسيب المتني، يشرف على القسم الثقافي فيها رئيف خوري، فنشر لي أكثر من قصة.لم ينه خروجي من المدرسة علاقتي بكريم مروة، الذي سافر لاحقاً إلى العراق لإتمام دراسته ونزل في بيت قريبه حسين مروة (1910- 1987)، وصار الأخير يعرف محمد دكروب لكثرة ما تحدث كريم عن «السمكري» الذي يكتب ويقرأ، وصارت بيننا مراسلات. في عام 1949 كنت أشتغل في دكان السمكري، أطرق على إبريق التنك؛ وإذ برجل يقف بالباب، نحيل، وجهه طويل، شفتاه بارزتان، ويقول بصيغة السؤال: «محمد دكروب؟». (يبكي وهو يروي) نظرت نحوه، فقال: أنا حسين مروة. كانت يداي متسختين، وقفت بخجل وارتباك، حاولت مدّ يدي لأسلم عليه، ثم استحييت لما تحمله من زيوت وشحوم. مدّ هو يده وسلّم وقال: أنا صديقك يا محمد. ومنذ تلك الفترة بقيت التقي بحسين مروة حتى آخر رمق من حياته، كانت أجمل صداقة وكان هو أحد أهم السبل التي عبرها وصلت إلى الحزب الشيوعي اللبناني.كيف؟^ عام 1951 دبّر لي حسين مروة عملاً في دكان لبيع أكياس الورق و«الطرحيات» في بيروت، فتركت مدينة صور وانتقلت إلى بيروت. هنا تعرفت إلى عدد كبر من الكتّاب. كنت في صور قد التقيت الأديب محمد عيتاني (1926- 1988) معلّماً في المدرسة الجعفرية، بعد نقد لي في «التلغراف» لقصص رياض طه وردّ علي محمد عيتاني في «التلغراف». كنت متطرفاً في الثورية. بعد نقاش مستفيض انعقدت بيني وبينه صداقة جميلة. لذلك في بيروت وجدت أجمل صداقات العمر مع محمد عيتاني التي بقيت إلى يوم وفاته، وأنا لم أزل أشعر بوجوده قربي إلى الآن. كان محمد عيتاني قارئاً نهماً، ويجيد اللغة الفرنسية وأنا لا أعرف لغة غير العربية. كان يلخص لي المجلات الثقافية الفرنسية ويحكيها بشكل ممتع حتى زودني بالثقافة الفرنسية الحديثة من دون أن أعرف لغتها. لقد ملأني هذا الرجل بثقافته كثيراً وصداقته وإنسانيته، وعن طريقه تعرفت إلى ألبير أديب، صاحب مجلة «الأديب».كان محمد عيتاني يكتب في «الأديب» وكذلك أشهر كتاب العرب. لقد رعاني ألبير أديب (1908- 1985) بكل اهتمام ونشرت في مجلته قصصا ومقالات عدة. وكتبت مقالاً شبه اجتماعي سياسي فجعله افتتاحية أحد الأعداد، ما أعطاني دفعاً هائلاً للقراءة والكتابة، وثقة كبيرة بالنفس. كان فكر ألبير أديب متقدماً، لكنه كان متحفظاً في تبيان فكره اليساري. عبر محمد عيتاني وألبير أديب تعرفت أكثر على المجتمع الثقافي العربي، ومن خلال صالون حسين مروة بدأت أتعرف على قيادات الحزب الشيوعي اللبناني، ومنها فرج الله الحلو ونقولا شاوي.عن طريق حسين مروة بدأت انشر قصصا ومقالات في «الطريق»، ما لفت اهتمام قيادة الحزب. دعاني حسين مروة إلى اجتماع سري مهمّ. رحت، فوجدت نقولا شاوي وشخصين آخرين، أحدهما يرتدي بدلة بيضاء، كان قليل الكلام، لكن عندما كان يتحدث، يتحدث بهدوء واتزان وموضوعية وفي خضم الموضوع المتداول. لا يبدو عليه أنه قائد. في الاجتماع طرحوا عليّ تولي شؤون مجلة «الثقافة الوطنية» التي يعود امتيازها للحزب الشيوعي. قال نقولا شاوي: أنت يا محمد ستتسلمها وتستعين بحسين مروة وتتشاور معه. اعترضت وقلت إنني لا أعرف بالصحافة وأحتاج إلى ثقافة أكثر. قال صاحب البدلة البيضاء: لا، عندك ثقافة، وستترك عملك في دكان الورق وتأتي لاستلام المجلة (التي كانت أسبوعية ومن 8 صفحات). عندما خرجنا من الاجتماع الذي تضمن عدة اقتراحات حول أبواب المجلة وكتابها، سألت حسين مروة عن الرجل «الأبيض» فقال ألم تعرفه؟ إنه فرج الله الحلو. منذ لقائنا الأول تربع بقلبي هذا الإنسان الذي كانت مزاياه لا تعدّ ولا تحصى.نجحت نجاحاً باهراً في صناعة المجلة وإصدار أعدادها العدد تلو الآخر، كما وضعت لها إخراجاً مميزاً. صرت أكتب وأصحح المقالات. نشرناها أسبوعياً ثم شهرياً وانتشرت في العالم العربي انتشاراً غريباً وصار يكتب فيها أشهر الكتاب العرب والتقدميين حتى غير اليساريين، وقلّدت من خلالها أبواب «الكاتب المصري» وكنت أطلب من محمد عيتاني ونزار مروة وخليل الدبس إيجاز بعض المقالات الفرنسية. حتى أضحت غنية بالمواد والمقالات والتبويب. إلى أن، وآخ هذه حرقة بقلبي، في عام 1959 وكانت المجلة بعز ازدهارها ورواجها، يأتي قرار ليس من حكومة أو غيرها، من خالد بكداش، من دون أي تعليل، أن أوقفوا هذه المجلة. حتى اليوم لم أعرف لماذا قرر الأمين العام للحزب الشيوعي إيقاف المجلة. سألت ولم يأتني جواب. هذه حرقة بقلبي، كيف يقتل الحلم...وأنت ماذا قدّرت؟ أو إلام عزوت القرار؟^ إن خالد بكداش كانت له عادة، أنه إذا كبر رأس أي رفيق أو أديب فوق حد معين، يجب قطع رأسه. يجب على الجميع أن يكونوا تحت وهو فوق. هذه مجلة اشتهرت جداً وصارت تضخ فكراً متجدداً أكثر من الفكر التقليدي البيروقراطي للماركسية وانفتاحاً على التطور، وهو لا يريد ذلك، وممنوع أن يصعد أحد لفوق.السيّد خالد بكداشألم يدافع عنها أحد؟^ لم يجرؤ أحد أن يدافع عن المجلة، لأن من يدافع هو ضد القيادة وسينحّى جانباً. وكان في تلك الفترة من العار على الشيوعي أن ينحّى جانباً. غير هذا الزمن. لم يكن أحد يجرؤ حتى على السؤال لماذا؟ حتى اليوم يعزّ علي كيف أقفلت هذه المجلة من دون أدنى سبب، من قبل السيّد خالد بكداش، وليس الرفيق، برغم أنه كان يسايرنا كثيراً أنا وحسين مروة لأننا كنا نكتب عنه في تلك الفترة. لكنني من يومها اتخذت قراراً في أنني لن أكتب بعد اليوم حرفاً واحداً عن هذا المخلوق، وهكذا فعلت. أذكر أنني كنت مرة، أنا وحسين مروة في جريدة «النور» في سوريا، وكان لقاء للقيادة، فشاهدته كيف يتأمّر على القياديين في الحزب، كيف يشتمهم ويبهدلهم.بعد إقفال مجلة «الثقافة الوطنية» إلى أين انتقلت؟^ كانت «الأخبار» في تلك الفترة مجلة أسبوعية، أنشأنا لها صفحة ثقافية يكتب فيها حسين مروة ومحمد عيتاني وجورج حنا ومحمد دكروب. أهم دراسات حسين مروة التي صدرت في كتبه في ما بعد كانت مما نشره في الصفحة الثقافية في «الأخبار». ومحمد عيتاني كتب قصصاً عدة. بعدها اقتُرِح أن أكون في «الطريق» كانت سنة 1966، وكنت قبلها أتعاون مع ميشال سليمان وكانت مشكلته أن نفسه الصحافي محدود، تأتيه المقالات فينشرها، لكن لم يكن ذا هوس صحافي، كان الهوس الصحافي عندي أنا. أريد من المجلة متعددة الأبواب وأن تنفتح على مختلف الكتّاب. عقدنا اجتماعاً في بيت أنطون ثابت واقترحنا أن تكون المجلة، صاحبة الامتياز السياسي، فكرية ثقافية خصوصاً أن الحزب ينضح بمثقفيه، وقدمت اقتراحات عديدة، على أن نبقي على دراسات ومقالات سياسية. منذ ذاك الوقت صرت المسؤول الأساس لمطبخ المجلة التي تصاعدت ونزلت حتى باتت أشهر مجلة عربية. كانت همّي اليومي، همّي همّي. من خلالها صار اسمي معروفاً ومن أهم ما كتبته أنا، كتبته في «الطريق»؛ ومن أهم ما كتب حسين مروة ومحمد عيتاني كان في «الطريق». من أهم ما اقتحم به مهدي عامل (1936- 1987) الفكر الماركسي كان في «الطريق». بعدها أتى كريم مروة ووضع يده معنا وأعطاها أشياء كثيرة، وكان يومها غير كريم مروة اليوم لناحية الفكر. كان الاهتمام بالطريق عامّاً بين جميع المثقفين اليساريين اللبنانيين وكانت هي بمثابة جواز مرور للعديد منهم. كانت حرقة بقلبي أنها توقفت، مع علمي بالأسباب أنها مالية بامتياز. والحرقة الثانية أنني فيها تخصصت أكثر بالكتابة في النقد الأدبي والفكر السياسي.متى بدأت تشعر بخسارات لا تعوض، من أصدقاء رافقتهم وغابوا، إلى من يشدك الحنين؟^ أولهم حسين مروة ومهدي عامل. لم يكونا ثروة فقط للمجلة، بل ثروة إنسانية لي تحديداً، على الصعيد الشخصي الحميمي. الصداقة التي كانت تربطني بهما عميقة، ما زلت حتى اليوم عندما أتذكرهما أشعر بأنهما موجودان بقربي؛ وعندما أكتب نقداً أدبياً أو فكراً سياسياً أشعر بأن حسين مروة بجانبي. أما مهدي عامل، فكنت مهووساً بفكره الخلاق ودماغه الخلاق. كان إنساناً عجيباً خلال نقاشه. ما كان يرتجله من نقاش وقول كأنه كان مكتوباً أو مسجلاً سابقاً. كنت مندهشاً بتلك الحافظة عنده، بالفكر المفكِّك المحلل. مهدي عامل من أحب الناس لداخلي ونفسي هو وحسين مروة ومحمد عيتاني الذي خسارته كانت كبيرة بالنسبة إلي، كصديق وككاتب وفنان. هو أهم من كتب عن ناس بيروت وبحرها، حتى الآن لم تعط بيروت مثله. ثم بالعهد الحديث خسارتي بمحمود أمين العالم (توفي 2009) وعبد العظيم أنيس (توفي 2009) وقبلهما يوسف ادريس (توفي 1991) وكانت لي معهم علاقات متينة جداً، إن غيابهم أثر فيّ برغم أن غياب العالم وأنيس كان منتظراً، لكن حسين مروة ومهدي عامل لاغتيالهما، خصوصاً مهدي عامل الذي كان لم يزل بصعوده الصاروخي الهائل. هؤلاء فقدتهم، وأشعر بأنني أنقص كلما راح واحد من هؤلاء. ثمة شعور ظل يرافقني منذ أن تركت المدرسة أنني دائماً أتغذى من مواهب الآخرين، أتشرب أفكارهم. هم وصلوا بالدراسة لأبعد مني وأنا من قراءاتي لهم، برغم محاولاتهم اقناعي بالعكس وبموهبتي.ربما لو ِأكملت دراستك كنت أعطيت أهم مما أعطيته حتى الآن؟^ أعتقد بـ«لا»... لقد طرحت على نفسي هذا السؤال أكثر من مرة لكنني أنا استفدت من الأشخاص الذين أتيح لي مصادقتهم، استفدت كأنني في مدرسة، ناهيك عن العلاقات الإنسانية التي ربطتني بهم وتجذرت، ولم تكن عابرة، ما جعلني أتشرب أفكارهم. من محمد عيتاني اكتسبت الثقافة الأوروبية، كنا نذهب «مشاوير» إلى رأس بيروت، والزيتونة، وطوال الطريق يظل محمد عيتاني يحكي لي، هو حكّاء هائل، بنوع من التلذذ، ويشعر بأهمية ما يحكيه بالنسبة إلي، وكونه يحكي لي بالذات بكثير من الحب. كنت أعرف منه لأغذي مخزوني الثقافي الذي يظهر لاحقاً في كتابات لا تخطر ببالك، تتذكر فتكتب حتى لو لم تكتب ما سمعت، بل من هذا التكوين المزاجي الإبداعي النقدي. أنا الآن تجاوزت الثمانين، وأقول: إذا أتى وقت علي وتوقفت عن الكتابة معناها أنني متّ. هذه هي حياتي منذ 1958، بل قبلها منذ أواخر الأربعينيات وليس عندي حياة غيرها، حتى أن المهن التي مارستها أفادتني كثيراً، كانت بالنسبة إلي كما النهر.هل أنت فرح لأنك كتبت جذور السنديانة الحمراء؟^ جداً. كتبته من حرقة قلبي، بنوع من الوجد. وكتبت في مقدمة الكتاب كيف أرسلوا بطلبي من موسكو عام 1974 وكنت أدرس في «معهد العلوم الاجتماعية» لأكتب كتاباً في الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي، ثم كيف جمعت ما جمعته وكيف ساعدني كل من آرتين مادويان ويوسف إبراهيم يزبك وخليل الدبس. لكن وجدت خلال تركيزي على الفترة بين تأسيس الحزب سنة 1924 وسنة 1931، تاريخ تسلم خالد بكداش الأمانة العامة للحزب، أن الأخير محا كل الفترة التأسيسية للحزب وكأنها ليست موجودة. لا يوجد فيها لا فؤاد الشمالي ولا يوسف يزبك ولا غيرهما من مؤسسي الحزب. قررت بيني وبين نفسي أن فرصتك أتت يا محمد في إعادة كتابة تاريخ الحزب وتصويبه لا سيما هذه الفترة الممحوة. هذه الفترة كانت من أهم الفترات النضالية في حياة الحزب إن لم تكن الأهم. كيف أن ستة أشخاص صنعوا حزبا صار ملء لبنان، كانت فترة ملحمية لمسيرة الحزب. كانوا مناضلين حقيقيين وكان لديهم أمل أننا نحن سنبني نظامنا الآتي. عندما بدأت أكتب شعرت بأنني أتوحد مع هؤلاء الأشخاص الذين كانوا مظلومين والذي ظلمهم لم يكن حكماً أو حاكماً بل خالد بكداش. لقد مات فؤاد الشمالي من الجوع بعدما اتهمه خالد بكداش بأنه عميل استخبارات فرنسية. وكيف يموت العميل من الجوع؟ هكذا كان خالد بكداش، عندما يريد أن يزيح أحداً كان يرمي عليه تهمة، وهو قد أتى من الاتحاد السوفييتي منصباً أميناً عاماً وبقي كذلك 58 سنة، لا يوجد ملك بقي كل هذه المدة. لم أشعر بأنني أكتب تاريخاً بارداً وموضوعياً، بل تاريخ مناضلين أحببتهم، وكان كتابا موثقاً آخر درجات التوثيق. إنه الكتاب الذي أعتز به من بين كل كتبي وقد كتبته بوجد هائل.حرقة بقلبيلو لم يكتب محمد دكروب «جذور السنديانة الحمراء»، فهل كان أحد ما من شيوعيي الحزب سيقوم بهذه المهمة؟^ (يتنهد بعمق) لا، لا... وهذه حرقة بقلبي أن التاريخ التوثيقي العلمي للحزب في تلك الفترة وما تلاها يحتاج إلى لجنة اختصاصصين علميين وأين هي؟ يستحيل أن يكتبه واحد. أنا اخترت الشكل الذي كتب فيه بين التوثيقي والروائي وبنوع من الوجد والتوفق الكتابي لكي يكون كتاباً مؤنساً. وعندما انتهيت منه قال لي خليل الدبس الذي كنت أحترمه وأحبه: «هل تعلم يا محمد أن هذا الكتاب قد يكون كتابك الوحيد حتى في تقديرك انت؟ هذا الكتاب جمعته بثلاثة أشهر وكتبته بثلاثة أخرى، إنما كنت بحالة غير بشرية، كان عندي هوس بالكتابة، هوس بالحزب، هوس بداخلي تجاه الحزب. ويسألني البعض هل ما زلت بالحزب الذي انفرط عقده؟ فأرد: لو أن كل الحزب الشيوعي انفرط في لبنان، سيبقى حزب شيوعي اسمه محمد دكروب.كيف تزجي الوقت هنا في بيروت؟^ بعدما كبرت بالعمر صارت الكتابة مرهقة، وصرت أمضي اكثر الوقت بالبيت والكتابة. أنا محظوظ في أن لي صداقات واسعة وأطل من خلالها على مختلف الاتجاهات والأجواء، ولا توجد عندي عصبيات، كما أن علاقاتي جيدة مع الصحافة والصحافيين. ما عدت أشارك في سجال فكري ثقافي. في ذاك الزمن كان السجال يجري من كعب الدست ثم ننهيه بسكرة وفرح ومرح. إن أصدقائي الخصوصيين هم من رحلوا. وممن لم يأتوا من الزمن، حبيب صادق، هو من أعز الأصدقاء عندي والذي دائماً أنا وهو نشعر بنقص ما لو لم نحك كل يوم أو نلتقِ. إن صداقات الأدب والثقافة صداقات لا تنتهي. أما سياسيو هذا البلد فإن 99 بالمئة منهم كاذبون انتهازيون مع القول. لذلك أنا لست مغرماً كثيراً بصداقات السياسيين حتى لو كانوا في الحزب الشيوعي.هل هناك ما كنت ترغب بكتابته ولم تكتبه؟^ لم أندم على شيء في كل مسيرتي الطويلة، لكن كتابة القصص القصيرة التي كنت انتهجها بين الخمسينيات والستينيات، اصدرت منها مجموعة وتمنعت عن مجموعة أخرى أندم اليوم على فعلي هذا. ربما تملكني في الستينيات شعور بأن النمط الجديد لكتابة القصة قد تجاوزني وأنني قد تخلفت عنه فقطعت. هذه القطيعة ندمت عليها لأن كان من الممكن أن أتجاوز هذه العقبة التي تجلت بالتجديد على صعيد المسرح والموسيقى والشعر وغيرها، وأن أستمر بكتابة القصص. اتخذت قرارا واقتنعت به في حينه في أنني لم أعد أستطيع مجاراة الموجة الجديدة، فوقفت وقوفاً نبيلاً لكن كان غبياً، إذ كان يمكن أن أواصل. إنها حرقة في قلبي لأن حياتي كانت غنية بشكل يمكن أي روائي أن يغرف منها روايات وروايات. لذلك كانت مقالاتي وأبحاثي في النقد الأدبي فيها سرد قصصي، كان نوعاً من التعويض...أجرى الحوار: كامل جابر