محمد بلوط
خطوة أخرى خطتها الإدارة الفرنسية نحو تحويل قضية جورج إبراهيم عبدالله إلى أزمة فرنسية - لبنانية، رسمية وشعبية، بامتياز، استجابة لضغوط أميركية علنية، ولما جاء على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند التي طلبت الاستمرار في حبس اللبناني، وهو ما انصاعت له الحكومة الفرنسية، رغم قرار قضائي واضح بإطلاق سراحه.
ولا يمكن العثور على أي تفسير لذلك سوى الخضوع للضغوط الأميركية، ولرغبة الانتقام السياسي التي يتقاسمها البعض في الحكومة الفرنسية مع الأميركيين، بعيداً عن أي عدالة أو قانون.
ولا يندرج، إلا في هذا السياق، أن تنتظر وزيرة العدل كريستيان توبيرا أسبوعاً كاملاً قبل أن تستنجد بمحكمة التمييز كي تعيد النظر بقرار محكمة الاستئناف إطلاق سراح جورج عبدالله، وهو ما يُعدّ مهلة طويلة نسبياً في قضية بأهمية القضية التي نظرت فيها محكمة تطبيق الأحكام الفرنسية، خصوصاً أنها كانت وافقت على الطلب الثامن لإطلاق سراح المعتقل السياسي اللبناني بعد 28 عاماً من السجن.
ولإقفال الزنزانة على جورج عبدالله، تزامن طلب وزارة العدل، عبر النيابة العامة، طرح حكم محكمة الاستئناف الصادر لمصلحة جورج عبدالله أمام محكمة التمييز، وهي أعلى هيئة قضائية فرنسية، مع طلب ثانٍ يستأنف المهلة المعطاة لوزارة الداخلية الفرنسية، وطلب اعتبارها لاغية. وبررت النيابة العامة قرارها بمطالعة قضائية بأنه «كان على محكمة الاستئناف أن ترد طلب إطلاق سراح عبدالله المشروط بإبعاده، نظراً لعدم وجود قرار بالإبعاد من قبل وزير الداخلية الفرنسية».
وأقفل الهجوم القضائي الفرنسي المزدوج أي احتمال أمام إطلاق سراح عبدالله في القريب العاجل. فطلب استئناف إلغاء مهلة الإبعاد المنتهية في 28 كانون الثاني الحالي يعلق تنفيذ إطلاق سراحه، باعتبار أن طلب التمييز وحده لا يمنع إطلاق سراحه، بنظر القانون الفرنسي. أما التمييز فيضيف شهرين على الأقل، وهي مهلة النظر بالطلب، على محكومية المعتقل الذي كان يستعدّ للقاء بيروت منذ أسبوع. ويقتصر عمل التمييز على النظر في تطابق قرار إطلاق سراح عبدالله مع قواعد القانون الفرنسي فحسب، ولا يدخل في اختصاص محكمة التمييز الموافقة على حكم محكمة تطبيق الأحكام أو رفضه.
وأقفلت الخطوة الفرنسية الباب أمام أي تدخل سياسي لبناني رسمي، باعتبار أن إعادة الملف إلى القضاء، بعد أن بدا خلال الأسبوع كله ملفاً سياسياً خالصاً يتحكم به وزير الداخلية مانويل فالس، ينزع من المطالبين بحرية عبدالله، القدرة على اتهام فرنسا باعتقاله لأسباب سياسية. وأصبح بإمكان الحكومة الفرنسية والمتحمّسين لإبقاء جورج عبدالله في السجن، التلطي خلف القضاء مرة ثانية، والقول إنه لا يمكن البحث في القضية طالما أن محكمة التمييز لم تقل كلمتها، كما انه من غير الممكن التدخل في عمل القضاء في بلد تعمل فيه السلطات بشكل مستقل عن بعضها البعض.
وفي المقابل تقدّم جاك فرجيس، محامي عبدالله، بطعن في طلب إلغاء المهلة الممنوحة لوزير الداخلية لإبعاد عبدالله، وهو يُعد مطالعة أمام المحكمة الإدارية تتهم وزير الداخلية بعدم الانصياع لطلب القضاء إطلاق سراح عبدالله، وتطلب تنفيذ القرار قبل انقضاء المهلة في 28 الشهر الحالي.
وخلال الساعات الأخيرة، كشفت الاتصالات اللبنانية ـ الفرنسية وجود خلافات داخل الحكومة الفرنسية على طريقة التعاطي مع قضية جورج إبراهيم عبدالله. وكانت وزارة الخارجية الفرنسية أقرب إلى وجهة نظر تدعو إلى تنفيذ قرار الإبعاد وطي ملف عبدالله وعدم تعكير العلاقات اللبنانية ـ الفرنسية، خصوصاً أن القضاء وفر الأرضية الملائمة لإغلاق الملف. وفي المقابل بدت الداخلية الفرنسية على خط معاكس، وهي وزارة يقودها مانويل فالس، احد صقور يمين الحزب الاشتراكي المؤيد لإسرائيل من دون شروط.
وكان مسؤول في الوزارة أبلغ مسؤولاً لبنانياً الأسبوع الماضي أن فرنسا تتعرض لضغوط للاستمرار في حبس عبدالله، وليس على لبنان سوى القيام بضغوط مقابلة. واكتفت وزارة العدل في البداية بطلب استئناف تمليه ضرورة نفض اليد من تهمة التواطؤ مع المعتقل اللبناني، من دون الذهاب أبعد مما يحدده القضاء الفرنسي، ولكن وزيرة العدل كريستيان توبيرا دخلت متأخرة على خط الانتقام سياسياً من جورج إبراهيم عبدالله، بعد أن كانت قد امتنعت عن طلب تمييز القرار الأسبوع الماضي .
وتسود الخارجية الفرنسية مخاوف من أن تشتدّ حركات الاحتجاج على استمرار اعتقال جورج عبدالله، وتحويله رهينة سياسية لبنانية بنظر حملة تطالب بإطلاق سراحه أمام السفارات والمراكز الثقافية الفرنسية في لبنان وفلسطين والأردن. وتخشى أوساط ديبلوماسية فرنسية من احتمالات أن تتسع الحملة إلى تهديدات أمنية إذا لم ينقشع الأفق القضائي أمام عبدالله بعد مطالب في لبنان بطرد السفير الفرنسي وبدء اعتصام بالقرب من مقرّه في بيروت. وتواصل السلطات اللبنانية اتصالاتها مع الداخلية الفرنسية التي أجلت موعداً للقاء مسؤول لبناني كان مقرراً الأسبوع الماضي للبحث في القضية، التي أصبحت الملف اللبناني ـ الفرنسي الأول. ومن المنتظر أن يستقبل الاليزيه والداخلية الفرنسية مسؤولاً لبنانياً يتابع الملف عن قرب من دون كبير تفاؤل أن تؤدي الاتصالات إلى نتائج ايجابية.