فعلها وزير الداخلية الفرنسي مانيول فالس. قرر أن يمارس أقصى درجات التعسّف السياسي والإداري، ممتنعاً عن توقيع قرار يجيز ترحيل الأسير جورج عبد الله إلى لبنان، معيداً رمي الكرة مجدداً في ملعب محكمة تطبيق الأحكام التي تعيد النظر في القضية في 28 الحالي
بسام القنطار
«لا نعتقد أنه يتعين الإفراج عن (جورج عبد الله)، ونواصل مشاوراتنا مع الحكومة الفرنسية بشأن ذلك». الكلام للمتحدثة باسم الخارجية الأميركية فكتوريا نولاند، مساء الجمعة بتوقيت واشنطن. كانت هذه الإشارة أكثر من كافية للحكومة الاشتراكية في باريس لكي تعرقل قرار الإفراج عن الأسير الذي بات بدءاً من يوم أمس رهينة في سجن لانميزان.
عند التاسعة من صباح أمس، كان سيقف جورج عبد الله للمرة الأخيرة أمام القاضي الفرنسي ليبلغ قرار الإفراج المشروط بالترحيل. لكن وزير الداخلية الفرنسي مانيول فالس، كان بالمرصاد. لم يوقّع على الترحيل فعطل الإفراج.
وقال مصدر قضائي إن محكمة تطبيق الأحكام في باريس، التي عقدت جلسة أمس للنظر في الطلب الثامن للإفراج المشروط المقدم من جورج إبراهيم عبد الله «لم تتخذ قراراً بعد في انتظار حجة الطرد».
وفي 21 تشرين الثاني، استجابت غرفة تنفيذ الأحكام في باريس لطلب الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله بشرط طرده، وثبتت محكمة الاستئناف في باريس الخميس الماضي هذا الموقف، رافضة الطعن الذي تقدمت به النيابة العامة الفرنسية لتحسم الجدل بشأن قرارها النهائي والقاطع بالإفراج عن عبد الله.
أسئلة عديدة فجّرتها الخطوة الفرنسية المفاجئة: هل يستطيع وزير الداخلية الفرنسي أن يعطل بالكامل مفاعيل الإفراج المشروط؟ وهل يمكن النيابة العامة الفرنسية أن تطعن مجدداً في قرار الإفراج بعد أن خسرت معركة الاستئناف؟
مصدر قانوني فرنسي متابع لقضية جورج عبد الله في باريس أكد لـ«الأخبار» أن المعطى السياسي يطغى على القانوني في خطوة وزير الداخلية. ففي العادة، تمتنع السلطات عن ترحيل أجنبي من بلادها إذا كانت تتوقع أن البلد الذي سيرحل إليه، سواء كان موطنه أو بلداً ثالثاً، سيعامله بقسوة أو سيتعرض للاعتقال والتعذيب، وهي غالباً ما تحترم رغبة الأجنبي المرحَّل في البقاء قيد الإقامة الجبرية أو في معسكرات اللاجئين، في حال إنهائه فترة محكوميته. وأضاف المصدر: «في حالة جورج عبد الله، المعطيات معاكسة تماماً؛ فمن جهة، الحكومة اللبنانية عبّرت أكثر من مرة عن استعدادها لاستقباله، وهذا الأمر موثَّق، ليس في عام 2012، بل منذ عام 2003 عندما قررت المحكمة الموافقة على إطلاق سراحه قبل أن تلغي قرارها بناءً على طعن النيابة العامة».
وبالنسبة إلى مسألة طعن النيابة العامة في قرار الإفراج مرة جديدة، أكد المصدر القضائي أن هذا الأمر مستبعد، لكن إصرار وزير الداخلية على عدم توقيع قرار الترحيل يعني عملاً تعطيل قرار الإفراج.
هي ليست المرة الأولى التي تختلط فيها الأوراق القانونية بالظروف السياسية التي تجعل من ملف جورج عبد الله «فضيحة العصر» في فرنسا، على حدّ تعبير المسؤول السابق للاستخبارات الفرنسية إيف بونيه. فمنذ عام 1999 يستوفي جورج عبد الله كل الشروط المطلوبة للإفراج عنه، الأمر الذي يدفع السلطات القضائية الفرنسية إلى فتح ملفه لعدة مرات متتالية في السنوات الماضية.
وبالعودة إلى مستلزمات «الإفراج المشروط»، يتبين أنها خمسة، وهي محددة في قانون العقوبات الفرنسي، أولها السلوك الحسن داخل السجن، وهو أمر متوافر بشهادة المحكمة الفرنسية. ثانياً وجود من يقدم المساعدة له في حال الإفراج عنه، وهو شرط متوافر بالمستندات التي قدمتها عائلته بناءً على طلب السلطات الفرنسية، منذ عام 2003. ثالثاً، تأهيله ليتمكن من ممارسة مهنة، وهو شرط متوافر؛ لأن عبد الله بالأساس يعمل مدرساً في ملاك وزارة التربية في لبنان. رابعاً، الوضع النفسي السليم ليتمكن من إعادة اندراجه في المجتمع، وهو شرط متوافر بتقارير الطبيب النفسي المعني. خامساً، أن لا يشكل خطراً على المجتمع الفرنسي، وهو أمر يشترط القضاء توفيره من خلال ضمان ترحيله من قبل وزارة الداخلية الفرنسية إلى لبنان أو بلد ثالث يقبل استقباله. وهذا الشرط استخدمه وزير الداخلية، أمس، بنحو معاكس لتعطيل الإفراج المشروط عن عبد الله.
وكانت «محكمة الإفراج المشروط»، في مقاطعة بو (Pau) الفرنسية، قد اتخذت في 19 تشرين الثاني2003، قراراً بإطلاق سراحه، وحددت تاريخ 15 كانون الأول 2003 موعداً لتنفيذ القرار الجريء وغير المسبوق، الذي أثار النيابة العامة الفرنسية التي سارعت إلى تقديم استئناف فوري له، بناءً على طلب من وزير العدل، ما أوقف قرار محكمة بو (Pau).
وفي 16 كانون الثاني 2004، أعادت النظر في الأمر «المحكمة الوطنية للإفراج المشروط»، وخضعت هذه المحكمة لضغط وزير العدل الفرنسي الذي خضع هو بدوره لضغط أميركي إسرائيلي. وجاء القرار برفض الإفراج.
وفي 27 تموز 2005، عقدت محكمة الإفراج المشروط جلسة استماع للنظر في الإفراج عن جورج عبد الله. وفي 9 أيلول2005 طرحت النيابة العامة الفرنسية في جلسة مخصصة للموضوع موقفاً معارضاً بشدة لأي قرار يقضي بإطلاق سراحه، فلم يُفرَج عنه. وفي 31 كانون الثاني 2006، رفضت المحكمة الإفراج، وكانت حجج النياية العامة الفرنسية: أنّ صورة فرنسا ستهتز أمام الولايات المتحدة وحلفائها إن هي تهاونت وأفرجت عنه، وأنّ ترحيله إلى لبنان لا يشكل ضمانة لعدم قيامه بأعمال كالتي قام بها سابقاً، وأنّ تقرير الطبيب النفسي لا يكفي: هو سليم نفسياً، بشهادة الطبيب النفسي، لكن ما الذي يضمن عدم عودته إلى ممارسة «الإرهاب»؟ وكأن جورج مدمن مخدرات، أو مجرم عادي يُعالَج ليقلع عن إجرامه! كذلك تذرعت النيابة العامة بأنه لم يدفع تعويضات للضحايا تقدرها المحكمة بمبلغ 53357 يورو؛ علماً بأن عائلته تعهدت دفع كل التعويضات المطلوبة.
وفي 6 شباط 2007 تقدم جورج إبراهيم عبد الله للمرة السابعة بطلب الإفراج المشروط عنه. وفي العاشر من تشرين الأول من العام نفسه صدر القرار برفض طلب الإفراج.
استأنف عبدالله الحكم، وعقدت جلسة الاستئناف في 20 كانون الأول 2007، حيث تقرر أن يُعلَن القرار في 31 كانون الثاني 2008. وفي مساء ذلك اليوم، أُعلن أن القرار لن يصدر في هذا الموعد، بل في 17 نيسان 2008، المفاجأة كانت أن القضاة بدل أن ينطقوا بحكم الاستئناف، قرروا نقل ملف عبد الله من محكمة الإفراج المشروط إلى لجنة خاصة للنظر في درجة خطورته، تطبيقاً لقرار وزيرة العدل الفرنسية السابقة رشيدة داتي المعروف باسم «قانون داتي»، على أن يصدر القرار في 4 أيلول 2008.
لم يكن غرض كل هذه المماطلة غير الوصول إلى إقرار «قانون داتي» ومنع محكمة الإفراج المشروط من استكمال دورها. ومرّ أكثر من 15 شهراً على تقدم عبد الله بطلب الإفراج المشروط، وهذا حق سنوي لم يُبَتّ، خلافاً للأصول التي تقضي ببتّ الأمر في مدة سنة واحدة.
والجدير ذكره أن «قانون داتي» الصادر في مطلع عام 2008 يقضي بتمديد بقاء السجين قيد الاعتقال، ولو توافرت شروط الإفراج عنه. وقد لاقى هذا القانون رفض نقابات القضاة والمحامين و«مرصد السجون» ولجنة حقوق الإنسان واعتراضها؛ لأنه ينتهك الحريات العامة الأساسية، ويقضي بالاعتقال دون توافر واقعة جرمية، بل لمجرد الظن بإمكان الإقدام على ارتكاب جرم ما. وهذا ما دفع الصحيفة الفرنسية «لو كانار أنشينيه» إلى نشر القانون، وذيّلته بتوقيع «هتلر العصر».
وفي 17 حزيران 2008 تقرر عملياً نقل ملف الأسير جورج عبد الله إلى «لجنة خاصة» بناءً على أحكام قانون داتي، وتبلّغ رسمياً بذلك، على أن تصدر قرارها في 4 أيلول 2008. لكن هذا الموعد تأجّل إلى 9 كانون الثاني 2009، حيث كررت المحكمة رفضها الإفراج المشروط عن جورج عبد الله.
إنه درب الجلجلة الذي قضاه جورج عبد الله في المحاكم الفرنسية، وجلسة أمس واحدة من أخطر مفترقاته. هل يفجّر جاك فرجيس مفاجأته ويطلب إعادة محاكمة جورج عبد الله؟ بالتأكيد سيفعل إذا لم يفرج عن عبد الله في 28 الجاري.
الثلاثاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٣