قاسم قاسم
كان من المفترض أن يتجمع «رفاق» جورج عبدالله أمس في مطار بيروت الدولي لاستقباله. كان احتمال عرقلة ترحيله الى لبنان وارداً، لكن الأمل بالإفراج عنه كان أقوى. الشيء الوحيد الذي كان مجهولاً بالنسبة إليهم هو ساعة وصول طائرته. هل ستحطّ على أرض المطار ليلاً أم عصراً؟ الجواب لم يكن معروفاً. «اللجنة الدولية لإطلاق سراح جورج عبدالله» أكدت أول من أمس أنها الوحيدة المخوّلة تحديد ساعة وصوله، وذلك ليكون الاستقبال لائقاً به. لكن كل شيء تغيّر صباح أمس، وذلك بعدما رفض وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس التوقيع على قرار الترحيل، وأجّل الموعد الى 28 من الشهر الجاري لبتّ الموضوع. الخبر الذي وصل إلى هواتف الجميع بدّل الأولويات وأصبحت وجهة التحركات السفارة الفرنسية في منطقة المتحف عوضاً عن المطار. الى هناك توجه «الرفاق» وحداناً وزرافات. وقفوا أمام باب السفارة. لم يقطعوا السير. حملوا صور «الأسير » عبدالله. القوى الأمنية تعرفهم جيداً، فهم قد اعتادوا الاعتصام هناك. هذه المرة خالفوا القاعدة ولم يكن اعتصامهم هادئاً كما جرت العادة.
أمس شعر الجميع بالمظلومية ولم يكن عبدالله أو عائلته وحدهما المظلومين. هكذا، وقف العشرات أمام السفارة الفرنسية. حضروا ظهراً. حملوا صور عبدالله. ارتفع صوت الأناشيد الثورية. كل شيء أصبح جاهزاً. حتى عناصر قوى الأمن كانت حاضرة وجاهزة هي أيضاً. إذن عناصر المشهد اكتملت لإعلان بدء الاعتصام المفتوح الى حين الإفراج عن عبدالله.
أمام السفارة لم يملّ الحضور من الهتاف مطالبين بحرية عبدالله، فهذا أقل ما يمكن فعله لمن قبع 28 عاماً خلف قضبان السجن الفرنسي. مرّ الوقت سريعاً وكانت أعداد المتضامنين مع عبدالله تزداد. وبما أن القاعدة العسكرية تقول لكل معتصم ثلاثة عناصر، ازداد عدد رجال الأمن أيضاً. الجدران المقابلة للسفارة أصبحت لوحاً كبيراً. كتب المعتصمون عليها شعارات ضد فرنسا، «جورج عبدالله مخطوف في فرنسا بقرار أميركي صهيوني»، وعبارة محامي عبدالله الشهيرة «فرنسا مومس أميركا».
كل شيء سار على ما يرام، إلى أن قرر المعتصمون قطع الطريق. افترشوا الأرض. منعوا مرور السيارات. القوى الأمنية لم تتدخل وبقيت تراقب ما يجري. تقدم المعتصمون قليلاً إلى أمام باب السفارة مباشرة. هنا استنفرت عناصر مكافحة الشغب. حملوا دروعهم، ورفعوا هراواتهم في انتظار اللحظة المناسبة لإنزالها على رأس أحدهم. لكن ذلك لم يحصل رغم رشق المعتصمين السفارة بالبيض. موظّفو السفارة كانوا يراقبون ما يجري من خلف الزجاج. كان بإمكانهم أن يروا الغضب في عيون الحاضرين، إذ إن دولتهم صادرت حرية إنسان كان من المفترض أن يكون بين أهله. يقترب المعتصمون أكثر من القوى الأمنية وباب السفارة. يصطدم الطرفان ويستمر التدافع بينهما لدقائق.
تتدخل عائلة عبدالله وتطلب من المعتصمين الهدوء والتراجع وعدم الصدام مع القوى الأمنية. تصدح الحناجر مجدداً بالأناشيد اليسارية التي تهاجم القوى الأمنية «... وأفلت كلابك بالشوارع واقفل زنازينك علينا». يتراجع المعتصمون قليلاً مردّدين هذه العبارة. تزداد أعداد الحاضرين أكثر فأكثر. يختلط الحضور، بين شيوعي وقومي، وعروبي. الكل هنا من أجل «القائد الثوري جورج عبدالله»، كما كتب على إحدى الصور.
تسحب الشمس أشعتها. يبدأ المعتصمون بالإعداد لليلتهم الأولى أمام السفارة. يجلبون خيمة كبيرة. يختارون مكان نصبها. تأتي مجموعة كبيرة من الشباب ملتفحين «الكفافي». حضورهم يزيد حماسة الحضور. تصدح الحناجر مجدداً بالشعارات ضد فرنسا. يستغل أحد الناشطين انشغال القوى الأمنية بمراقبة الملثمين، ليكتب اسم جورج عبدالله على حائط السفارة. ينتبه إليه عناصر قوى الأمن. يهجمون عليه. ينتبه رفاق الشاب لما يجري، يتدافعون لحمايته. يتصادم الطرفان مرة أخرى. تتدخل العائلة مجدداً. هذه المرة كان الصدام أقوى. رُشقت القوى الأمنية بالبيض وببعض الوحول. ينتهي الإشكال. ينسحب المعتصمون من أمام باب السفارة الى الرصيف المقابل. يطلب جوزف عبدالله من الحضور عدم الصدام مع القوى الأمنية، فـ«اعتصامنا سيكون مفتوحاً، ولا نريد أن نضطر إلى الدفاع عن السفارة الفرنسية، لذلك لا نريد أن نصطدم بالقوى الأمنية». يتراجع الحضور. يفتحون الطريق أمام حركة المرور. وفي حديث مع «الأخبار»، يقول شقيق عبدالله، جوزف، إنه سيجري «في الأيام المقبلة تحديد طبيعة تحركاتنا المقبلة». هكذا، وبعدما هدأت الأمور والأنفس، عادت الحركة إلى طبيعتها أمام السفارة الفرنسية.
هذا ما جرى على صعيد ردّ الفعل الشعبي. أما على الصعيد الرسمي، فقد طلب رئيس الجمهورية ميشال سليمان من وزير الخارجية عدنان منصور استدعاء السفير الفرنسي باتريك باولي للاستيضاح منه سبب عرقلة إطلاق سراح عبدالله. وسيلتقي منصور اليوم السفير باولي لاستيضاح الأمر منه. وعلمت « الأخبار» أن وزارة الخارجية أعدّت ملفاً قانونياً ستواجه به السفير الفرنسي. وكان منصور قد أجرى اتصالاً بنظيره وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس للغرض نفسه. كذلك اتصل وزير العدل شكيب قرطباوي بنظيرته الفرنسية للاستفسار عن الموضوع، فردّ مدير مكتبها عليه قائلاً إنها خارج البلاد وستعاود الاتصال به عند عودتها. من جهته، رأى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بعد اتصاله بالسفير باولي، أن «التأخير في إطلاق عبدالله خطوة غير مبررة». وأصدر الحزب السوري القومي بياناً أكد فيه أن «عدم الإفراج عن جورج عبدالله عملية اختطاف موصوفة». أما حزب الله فقد رأى في بيان أن «عدم إطلاق عبدالله إمعان في مسلسل الظلم الذي يتعرض له». ورأى القيادي المستقبلي مصطفى علوش أن «الضغط الأميركي المتواصل أدى الى تأجيل إطلاق سراح عبدالله».
هكذا، ومهما طال أمد أسر «الفارس الأحمر» جورج عبدالله، «ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى».
الثلاثاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٣