ضحى شمس
القبيّات | في الفان الصاعد إلى عكار من طرابلس، الذي كان أكثر ركابه، كالعادة، من الجنود، تلاحق عيناك تفاصيل الطريق التي تعرفها جيداً وأنت تفكر: كيف سيرى جورج إبراهيم عبدالله هذه الطريق التي لم يسلكها منذ 29 عاماً؟ ما الذي ستلتقطه عيناه من تغييرات في المشهد العام؟ فجأة، تعود عيناك «لتريا» ما صارت تنسى رؤيته بحكم العادة. اللافتات التي تحيي الرموز الحديثة لتفتّت الدولة اللبنانية، من شخصيات عسكرية وأمنية لا حق لها في الفسحة العامة، كان أكثرها «مشلّعاً» وعالقاً على الشجر المكسر على جانبي الطريق بسبب العاصفة الثلجية الأخيرة. ساحة عبد الحميد كرامي التي أصبحت «ساحة الله»، لا شك في أنها ستلفت نظره، كما العمران العشوائي الباطوني البشع الذي «نبت» مكان بساتين الليمون التي كانت عاصمة الشمال تشتهر بها، وعدد المساجد التي صارت تحتل أجزاءً كبيرة من المشهد العام. أما عكار؟ فربما سيجدها على حالها، لولا النازحون السوريون. «مركز رعاية الإخوة السوريين الصحي» سيلفت نظره، والإعلان على مدخل البيرة عن لقاء مع الشيخ أحمد الأسير. سيقرأ لافتات كثيرة، «شي بمعنى شي بلا معنى»، قبل أن يصل إلى مشارف القبيات التي تزين مدخلها لافتة ترحّب «بابنها البار جورج إبراهيم عبدالله».
وفي القبيّات التي وصلناها وهي مغمورة بالثلوج، والتي تتوزع بيتها السياسي منازل كثيرة، تبدأ من الكتائب الذين «يزيّن» مركزهم الإقليمي في عكار مدخل البلدة، مروراً بالقوات والتيار الوطني الحر، وصولاً إلى القيادات التقليدية لآل الضاهر وحبيش وبعض اليسار الذين يرمز بيت عبدالله إليهم كما فهمت، كنا على موعد مع درس في التضامن القروي. «كل القوى اتصلت لتقول: الحمدلله على السلامة. نحنا قدامكم: شو بدكم يانا نعمل؟» يقول جوزف عبدالله، الذي جلسنا في بيته الى جانب الصوبيا. يخبرنا أنه سيكون هناك اجتماع مساءً لجميع الفعاليات والمخاتير لتنظيم استقبال القبيات لابنها العائد من سجون الأم الحنون.
ولكن، كيف يكون هذا التضامن؟ في النهاية جورج يرمز إلى مدرسة إيديولوجية! يقول جوزف: «في الحقيقة القبيات التمّت نفس اللمة لما اعتقلوا جورج كمان من 29 سنة، ولا تنسي القرى فيها عصبية عائلية. يعني ابن الضيعة عم يفرقعولوا ببيروت معقول نحنا ما نفرقعلو؟»، ثم يضحك.
لا يتوقف الناس عن التوافد الى منزل جوزف. لكنّ ظلاً من الشك ما زال يرخي سدوله على قلوب العائلة والمحبين، بسبب تصريحات «الشـ(..) نولاند»، يقصدون الناطقة باسم الخارجية الاميركية.
لم تتأخر الساعة الخامسة. بدأت الوفود بالحضور وسرعان ما امتلأ الصالون الكبير بالرجال. سيدة واحدة كانت بينهم هي ماري أخت النائب السابق مخايل الضاهر. حوالى ثلاثين رجلاً: مخاتير، ناشطون سياسيون، ممثلو أحزاب ورجال دين. يمازح أمين إسكندر (ممثل النائب هادي حبيش) الخوري نسيم قسطون الذي دخل للتو: «أبونا... اليمينيون لجهة اليمين واليساريون لجهة اليسار»، يضحك الجميع وكأني بهم يحيون اجتماعهم على اختلاف مشاربهم السياسية. يقف جوزف ويقول: «مسّيكن بالخير. بشكركن على تلبية هالدعوة، وبدي أشكر كل القبيّات اللي اعتبرت قضية جورج قضيتها. نفس الاجتماع اجتمعناه من 29 سنة، وكان الأب نبيل الزريبي هوي المبادر، وقال إنو هيدا الأمر ما منقبلو. اليوم، نحنا أهل جورج منشكركن. أكتر من خمسميّة تلفون إجاني اليوم من ناس المنطقة، وكلن عم يقولوا شو بتؤمرونا تنعمل. لذلك رح نعرض عليكم تصورنا وتقولولنا إنتو شو ممكن تساعدونا أو تقترحوا علينا». يعرض جوزف مشكلة عدم معرفة توقيت وصول جورج، ويخلص الى احتمالين: وصوله مساء الاثنين، أو الثلاثاء، «وأنا أرجّح الثلاثاء. إن وصل ليلاً، فسننام في بيروت ثم الى القبيات». ويقول إن الحملة الدولية لإطلاق سراح جورج «بمكوناتها المتعددة التي لها علاقة بانتماء جورج، اقترحوا استقبالاً رسمياً وشعبياً. الرسمي سيكون في قاعة الشرف في المطار، أما الشعبي ففي القبيات». وفي أقل من ساعة، اتفق الجميع على كل النقاط بعد أن أوضح جوزف للحاضرين الذين بدأوا بطرح أفكار معقدة: «بدي وضّح. يعني نحنا ما بدنا نعمل مهرجان. بدكن تقولوا إنو متل كأنو رايحين نهنّي ونضهر عالناشف»، يضحك الجميع وتطرح نقطة محتوى «اليافطات»، فيتفقون على أن تكون «يافطات» أهالي القبيات «عامة» و«أهلية». لا يعجب الكلام ممثل القوات إيلي زريبي الذي قال: «هيدا شهيد العدالة الدولية المزورة... أنا برأيي لازم نعمل له ملقى بالساحة». يقول آخرون «لكنه ليس أي قادم. هو معتقل سياسي». ثم يتفقون على أن يسمحوا لكل الاحزاب بتعليق ما تريد، شرط أن تكون لافتات «أهالي القبيات» أهلية. سرعان ما تتألف لجنة مصغرة لتنفيذ المقترحات اللوجستية وكتابة «اليافطات» وما الى ذلك. ينهمك الجميع بالنقاش، تكاد التهانئ تبدأ. ويصبح الجو جوّ احتفال. كان يكفي أن يحس جوزف بهذا الجو لكي يعود اليه قلقه من خيبة الأمل: «هلق في احتمال يا جماعة بين خمسة وعشرة بالمية إنو يفرط الإفراج»، يقول جوزف. يسكت الجميع كمن أسقط بيده. يتذكرون كلام نولاند، وتخرج مسبّة من العيار الثقيل من فم إحدى النساء. لكنّ شيئاً ما يدفعهم الى متابعة «التحضيرات». تقرر اللجنة ألا يدفع أهل جورج كلفة الاستقبال: «هيدا واجب علينا» يقولون. تَحبك النكتة مع الخوري نسيم فيمازح جوزف ربما نكاية ببعض الحاضرين، فيقول له «هيدي متل ما بيقول زياد أموال الناس ولازم ترجع ع جياب الناس»، يضحك الجميع بمن فيهم المغموز من قناته. أما في الطابق السفلي من المنزل، فقد جلست آمال، الأخت الكبرى لجورج، تنظم ردّيات للترحيب بأخيها. نسألها أن تقول لنا إحداها. فتقول إنها لا تستطيع، لأنها في كل مرة تغص ولا تستطيع إكمالها. لكنها تقول في النهاية: «أويها ونحنا خيّاتك مال الهوا وما ملنا/ نحنا اللي كل الطوايف شاكرة منّا/ يا خيّي فتاح دراعاتك وتعا اغمرنا/ طاب القلب برجوعك لعنّا»، ثم تغص... وتضحك وتبكي...
الاثنين ١٤ كانون الثاني ٢٠١٣