بذرة زرعت في نهر البارد ونبتت في فرنسا

قاسم قاسم

كان العالم بالنسبة اليهم ينتهي عند حدود مخيم نهر البارد. تدربوا على السلاح، واخذوا دوراتهم التثقيفية فيه. خارج حدود المخيم كان «الآخر». والآخر هنا كان العدو الذي يهددهم. عام 1973 كان عدوهم الماروني والاسرائيلي. هذا كان الاعتقاد السائد في العقل الجمعي الفلسطيني حينها. الفكرة تغيرت عند بعضهم، وخصوصاً عندما أتى مارونيّ من قرية القبيات على متن دراجته النارية الى مخيم البارد. اسمه كان محيراً. جورج عبد الله. هل هو مسلم أم مسيحي؟ اسمه الاول يعني انه مسيحي، اي عدو. أما اسم العائلة عبد الله، فأوحى لهم بأنه مسلم، اي حليف. هكذا، ولكي لا يعيشوا طويلاً حالة «الضياع»، سألوه السؤال الشهير حينها: «مسلم أم مسيحي؟». يجيب «مسيحي ماروني». ينزل الجواب كالصاعقة عليهم. «مسيحي ومعنا، كيف؟» يسألونه. «عنا يا بتكون متطرف يميني، او متطرف يساري، انا قررت كون متطرف يساري» يجيب. ينتهي النقاش هنا بين عبد الله ورفيقه في الجبهة الشعبية مروان عبد العال. كان الاثنان يخضعان لدورات تثقيفية في مخيم البارد. ومنذ تلك اللحظة بدأت علاقة جورج ابراهيم عبد الله بالجبهة الشعبية، وبمن أصبحوا اليوم قادة في الجبهة. يروي من عايش عبد الله اعواماً، كيف امضوا ايامهم معاً في مخيم نهر البارد، وكيف شاركوا في القتال ضد «اليمين المسيحي والاسرائيليين». يتذكرون شخصيته وطباعه وعناده وعدم قدرتهم على اقناعه بأشياء هو غير مقتنع بها، وتفانيه بأدائه والدفاع عما هو مقتنع به.

يروي مسؤول وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية مروان عبد العال كيف تعرف إلى عبد الله: «أتذكر كيف كان يأتي على دراجته النارية الى المخيم، وكيف كان يركنها امام مكاتب الجبهة الشعبية في المخيم». ويقول إن عبد الله تعرف على الجبهة بعد «حلقات نقاشية كانت تجري في المخيم مع مسؤولنا الشهيد ابو مصطفى الراشد، وكان جورج معجباً جداً بشخصية الراشد». يضيف «كما كان جورج متأثرا بالحكيم جورج حبش والشهيد وديع حداد، وكان تأثير حداد عليه قوياً جداً».

جال عبد الله في ازقة نهر البارد مستخدماً دراجته النارية. وزع مجلة الاداب على المهتمين. «حياة المخيمات» أثرت فيه كثيراً فهو كان يبيت فيه اياماً متتالية. يروي ابو جابر، الذي عايش عبد الله منذ عام 1973 حتى 1984، انه في إحدى الليالي، وعندما كان يبيت عبد الله عنده، «طاف البيت علينا». بيوت المخيم في تلك الفترة كانت غالبية أسقفها من الواح الزينكو. كان المكتب الثاني حينها، كما يجري اليوم ايضاً، يمنع ادخال مواد البناء الى المخيمات. يقول ابو جابر إن «صوت المطر على لوح الزينكو وطوفان البيت علينا لم يمكّنانا من النوم». في اليوم التالي، قال ابن القبيات لمضيفه «لازم تقتلوا كل الناس. انتو مش مظلومين من اليهود بس، انتو كمان مظلومين من الطبيعة». يتذكر ابو جابر كيف كان عبد الله ينقل البنزين والخبز الى قريته المحاصرة، كما يتذكر النقاشات التي كانت تدور بينهما. بالنسبة إلى ابي جابر، لم يكن عبد الله يفرق بين مسلم ومسيحي. بالنسبة اليه، كان الصراع طبقياً بين 4% مسيطرين على مقدرات البلد، و96% من ابناء المجتمع يحاولون استعادة حقوقهم. لهذا، كان عبد الله يعرف عن نفسه بأنه من «الكادحين من ابناء القبيات ولسنا بكاوات»، كما ينقل عنه عبد العال.

بعد إنهاء الدورات التثقيفية، انضم عبد الله الى الجبهة الشعبية رسمياً. خلال فترة وجوده في صفوفها، خدم جورج في كافة الاراضي اللبنانية. انتقل من الشمال الى «الجبل» في «مهمة جهادية». في تلك الفترة كانت تدور ما أطلق عليها «معركة الجبل». وكان عليه ان «يخدم» شهراً على أن يعود لاحقاً الى الشمال، لكن عبد الله خرج ولم يعد. عدم عودته مجدداً الى الشمال كان الاعلان الرسمي عن وفاة جورج عبد الله الأستاذ، وولادة جورج عبد الله المقاتل. هكذا، انضم عبد الله الى الجسم العسكري للجبهة الشعبية. كانت الاراضي اللبنانية كلها ساحة قتاله. كان يرابض في الجنوب، والبقاع، والجبل، وبيروت، لكن بعد اتفاق الهدنة الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الاسرائيلي قبيل الاجتياح، انفصل عبد الله عن الجبهة، رافضاً التهدئة مع العدو، واتخذ مساراً خاصاً به. تأثر عبد الله بوديع حداد، وخصوصاً بمقولته الشهيرة «وراء العدو في كل مكان». لذلك يتفهم رفاق عبد الله تركه الجبهة وانقطاعه عنهم الى حين سماع خبر اعتقاله. عرفوا حينها أن البذرة النضالية التي زرعت فيه نمت، ونبتت في فرنسا.

السبت ١٢ كانون الثاني ٢٠١٣

الأكثر قراءة