ضحى شمس
ربما كانت لجنة إطلاق سراح جورج إبراهيم عبدالله هي بالتحديد «أم العروس» في زفة الإفراج عن جورج إبراهيم عبدالله. سوزان لو مانسو، التي تعرفنا إليها منذ سنتين تقريباً في بيروت، كانت بالنسبة إلينا الوجه الأليف من لجنة إطلاق سراح جورج إبراهيم عبدالله الفرنسية التي تأسست عام 2004، وتضم أفراداً يعملون من أجل إطلاق سراح معتقلي الرأي والمناضلين الشيوعيين. وكما تبنت أمهات الأسرى في فلسطين المعتقلين الأجانب في سجون إسرائيل لاستحالة زيارة أهلهم لهم، كانت سوزان تبدو كأنها تنتمي إلى أولئك النسوة، رغم أنها من جيل المعتقل اللبناني الأشهر. عندما تتحدث عنه تنفعل، ولا حدود للإجراءات الأمنية حين يكون الأمر متعلقاً به. لذا، كان من الطبيعي أن نتصل أولاً بسوزان، بعد الاتصال بعائلة عبدالله، لنترك لها التعبير عن شعورها في هذه اللحظة التاريخية من نضالها. كانت متأثرة جداً، واستمهلتنا إلى المساء لتجيب.
«بم نشعر؟ تقول سوزان، صحيح جورج سيخرج أخيراً، (وتستدرك بحذر المناضلين القدامى الذين عانوا من خيبات كثيرة) شرط توقيع وزارة الداخلية الفرنسية قرار ترحيله إلى بلاده بالطبع. في الواقع، لا نستطيع (في اللجنة) إلا الإعراب عن تأثرنا وارتياحنا لتمكن رفيقنا أخيراً من العودة إلى بلاده وعائلته بعد منعه عنهما منذ 28 عاماً.
28 عاماً، هذا وقت طويل. لا بل إنه وقت طويل جداً، لكن جورج عبدالله، في نهاية هذه السنوات الطويلة، لن يخرج منكسراً بسبب استشراس الحكومات الفرنسية المتعاقبة على حبسه كل تلك السنوات، لا بل تأخير إطلاق سراحه بأي شكل كان (نذكركم بأنه اعتقل 28 عاماً بسبب مكيدة سياسية ــ قضائية)؛ ذلك أن الإفراج عنه كان ممكناً منذ عام 1999. إن قوة رفيقنا هذه بالمقاومة، هي التي سمحت لحركات الدعم أن تنمو وتكبر وتتكاثر، وخاصة في الشهور الأخيرة. هنا في فرنسا، وأيضاً في لبنان، حيث كانت حملة إطلاق سراحه شديدة الحيوية، وكذلك في بلجيكا وتونس وألمانيا.
إننا فخورون بمواكبتنا لهذا المناضل الكبير من أجل القضية الفلسطينية حتى النهاية، وهي أيضا قضيتنا، هذا الرفيق المحترم والحازم، الذي لم يتنكر لالتزامه على امتداد سنوات الاعتقال الطويلة، ولم يتراخَ يوماً في التضامن مع نضالات الشعوب».
لكن، كيف تهتم مواطنة فرنسية لأمر معتقل لبناني بتهمة الإرهاب على أراضي بلادها؟ ما الذي يعنيه ذلك؟ تجيب لومانسو: «أنا مناضلة وأهتم بالأصل بمعتقلي الرأي عامة». لم هؤلاء بالتحديد؟ «لأن قضيتهم هي مقاومة الاستعمار، وبالتالي مناهضة الإمبريالية. خذي فلسطين مثلاً. إنه مما لا يمكن احتماله أن نكون في القرن الحادي والعشرين، وأن يكون هناك شعب لا يزال يرزح تحت الاحتلال منذ 64 عاماً. معتقلو الرأي ليسوا إرهابيين، بل مقاومون للنظام الإمبريالي في العالم. لقد التقيت جورج إبراهيم عبدالله بين هؤلاء، وأُقاسمه التزامه القضية الفلسطينية. فهذه القضية تمسّني بنحو خاص، لأني ذهبت بنفسي إلى فلسطين ولمست على الأرض من هو في الحقيقة الذي يجعل الإرهاب يخيّم على الحياة اليومية (هناك) بكل الوسائل، وتبين أنه لم يكن ذاك الذي يراد لنا في بلادنا أن نعتقد أنه هو. لذا، أحيّي الشجاعة غير المحدودة للفلسطينيين، وأدعم نضالهم بكل أشكاله.
لكن التهمة هي الإرهاب، وهذا خط أحمر عند الرأي العام. تقول: «في ما يختص بالإرهاب، فإننا حين نطّلع عن قرب على تفاصيل المحاكمة التي قادت إلى الحكم على جورج، سنكتشف التلاعب الذي ذهب ضحيته الرأي العام الفرنسي، في وقت أدمت فيه التفجيرات باريس. لقد كان تحت يد «العدالة» الفرنسية مذنب جاهز، فيما كانت الاستخبارات ــ التي اعترف بعض أفرادها في ما بعد بالأمر ــ تعرف أنه لم يكن هو، طبعاً وزير «اللاعدالة» يومها كان يعرف أيضاً».
لكن، كيف ينظر إليكم مواطنوكم في ظل هذا التلاعب بالرأي العام؟ تجيب السيدة الخمسينية: «الأشخاص الذين نلتقي بهم أثناء توزيع بياناتنا التي تتحدث عن جورج مثلاً، لديهم ردود فعل مختلفة: البعض يدير لنا ظهره؛ لأن عقلية الأخلاق «المسيحية اليهودية» التي تتحكم ببلادنا تمنع إراقة الدم. لكن، للمفارقة، هؤلاء بالتحديد هم الذين يساندون عقوبة الإعدام مثلاً، ومن الواضح أن جرائم من يحكموننا لا تثير خوفهم أبداً. البعض الآخر، من غير الموافقين، يتوقفون بكل الأحوال لنقاش الفاعلية السياسية لهذا الشكل من أشكال الصراع، ويعرفون كيف يحللون السياق السياسي لمرحلة الثمانينيات. كذلك فإنه يجب أن يكون المرء مطلعاً على تاريخ لبنان في تلك الفترة، لكن التدخل الإمبريالي المباشر أو غير المباشر، هو نفسه في كل مكان. آخرون أيضاً، الشباب خاصة، لا يعرفون هذه المرحلة من التاريخ الثوري، ولا حركات المقاومة التي كانت وقتها تنظم في أوروبا وفي العالم. يسألون أولاً: «ما الذي فعله لكي يبقى منذ ذلك الوقت رهن الاعتقال؟». فكرة اللاعدالة هي التي تصدمهم وتتبادر إلى ذهنهم أولاً. «لكن أليس طبيعياً أن يدافع المرء عن بلاده؟»، يسألون متعجبين، بعد أن نكون قد شرحنا لهم الإشكالية. نقول لهم أولاً إن المستهدفين في تلك الأعمال (التفجيرات والاغتيالات) لم يكونوا «أبرياء مدنيين»، كما كان يروّج، بل «محترفو موت»! هناك سؤال كان يطرح أيضاً: لم، ما دام كان يدافع عن بلاده، لا تطالب الحكومة اللبنانية به؟ هذا أيضاً كان سؤالنا الذي شاركناهم طرحه (على الحكومة اللبنانية التي تحركت أخيراً مع تحرك رئيس الجمهورية).
عموماً، كان الشباب هم الأكثر انفتاحاً على النقاش وتبادل الآراء. يسألون العديد من الأسئلة عن هذه الفترة، فمن السهولة بمكان للبورجوازية الحاكمة التي تمسك بزمام الإعلام وتتلاعب بالأفكار، أن تزور الذاكرة لإفراغ التاريخ من مضمونه الثوري. انظري مثلاً إلى مجازر 17 تشرين الأول 1961 (ضد الجزائريين الذي رموا في نهر السين في باريس خلال تظاهرهم من أجل استقلال بلادهم) التي احتفلنا للتو بخمسينيتها، هل من كتاب تاريخ يأتي على ذكرها؟ أبداً».
اليوم، تقوم اللجنة بما يجب لتسهيل عودة جورج. هل انتهى النضال؟ أبداً. ففي المعتقلات الفرنسية لا يزال يقبع العديد من معتقلي الرأي، عكس ما يظن كثيرون. لذا، فالنضال سيستمر.
السبت ١٢ كانون الثاني ٢٠١٣