كان صعباً على اشقاء جورج عبد الله ان يخترقوا ثلج القبيات الى بيروت للمشاركة في الاحتفال بحرية شقيقهم الذي ناضلوا سنوات طويلة من اجل حريته. للعائلة قصة تروى من التلفيقات المخابراتية الى خطف الرهائن وصولاً الى النضال السلمي والحناجر التي هتفت آلاف المرات «اطلقوا جورج عبد الله»
بسام القنطار
فجر الاثنين المقبل كحد أقصى يُفتح باب سجن لانميزان الفرنسي. من هناك سيخرج رجل اسمه جورج عبد الله. انه يومه الـ 10309 والأخير على الارجح في سجون «الحرية والعدالة والمساواة» الفرنسية. أخيراً ستشرق شمس القبيات على وجه قائد «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» الذي تعرض لمحاكمات جائرة ومفبركة «على طريقة القاضي لينش Lynch في أفلام الويسترن الأميركية الرديئة» على حد قول محاميه الشهير جاك فرجيس.
عديدة هي الاسباب التي دفعت عائلة جورج عبد الله الى ان يسكنها قدر كبير من التشاؤم بأنه لن يطلق سراحه.
لكن عيون جوزيف، الشقيق الاكبر لجورج، كانت تقول الكثير. المثقف الثوري والعكاري السريع الغضب، كان يستجمع يومياً مؤشرات اداء القضاء الفرنسي، منذ ان اعلن في21 تشرين الثاني الماضي ان محكمة تطبيق الاحكام في باريس وافقت على ثامن طلب للافراج عن عبد الله مع طرده من الاراضي الفرنسية. ومن ابرز هذه المؤشرات مسارعة القاضي الى تحديد جلسة للنظر في الاستئناف الذي تقدمت به وزارة العدل الفرنسية التي تعترض، بتشجيع اميركي صريح، على اطلاقه، اضافة الى تحديد يوم امس موعداً للنطق بالحكم، وذلك قبل أربعة أيام من الموعد الذي حدده القضاء، لكي تنجز وزارة الداخلية اجراءات الترحيل خارج الاراضي الفرنسية.
يطلق، جوزيف، الاستاذ الجامعي المتخصص بعلم الاجتماع، لقب «الصعاليك» على من حمل راية الدفاع عن جورج عبد الله. هؤلاء الذين نبذتهم طوائفهم واحزابهم، وبقوا وحيدين يجاهرون بالعداء لـ«الام الحنون» في حين تسابق الجميع الى حفلات الاستقبال السنوية في «قصر الصنوبر» احتفاء بالعيد الوطني الفرنسي.
لطالما اعتبرت السلطات الفرنسية اشقاء جورج عبد الله جزءاً من «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية». واثر العملية التي نفذت في شارع رين Rennes في باريس في 17 أيلول سنة 1986 اتهمت السلطات الفرنسية عائلة عبد الله بالوقوف وراءها.
كانت تلك التهمة كذبة دنيئة للغاية خصوصاً أن تحقيقات مكتب مكافحة الإرهاب في النيابة العامة في باريس اظهرت أن لا عبد الله ولا أحداً من أهله متورط في هذه الاعتداءات. يقول قاضي مكافحة الإرهاب السابق، آلان مارسو، في كتاب مذكرات بعنوان «قبل أن ننسى كل شيء»: «لقد تمت إدانة عبد الله أساساً على ما لم يقم به لأننا حصلنا، بعد فترة وجيزة، على أدلة وضعتنا على الطريق الصحيح واستطعنا تحديد هوية المسؤولين عن اعتداءات 1986». ويضيف: «إن تحميل المسؤولية لفؤاد صالح في اعتداءات 1986 قد أزالت الضغط فجأة، وأعادت وضع جورج عبد الله في مكانه الصحيح. بعد بضع ساعات على الاعتداء في شارع رين، اتجهنا في تحقيقاتنا نحو الأخوة عبد الله وعدة شهود تعرفوا على صور أخوة جورج. لكن تم تفسير هذا اللغط بسرعة: أحد واضعي القنبلة، المدعو حبيب حيدر، والذي تحديداً كان معنيا بالاعتداء في شارع رين، يشبه بشكلٍ كبير إميل عبد الله».
يروي جوزيف انه فور اتهام افراد من العائلة بالوقوف وراء عملية شارع رين، وتخصيص جائزة مالية لمن يدلي بمعلومات حول مكانهم، سارعت العائلة الى عقد مؤتمر صحافي في القبيات، ما جعل المخابرات الفرنسية في موقف محرج، بعدما روجت لساعات روايات بوليسية سخيفة وصول افراد من العائلة الى باريس وتنفيذهم العملية قبل ان يلوذوا بالفرار. وطالبت العائلة في المؤتمر بدفع الجائزة المالية الى عائلات ضحايا العمليات التي تتهم السلطات الفرنسية جورج عبد الله بأنه يقف وراءها.
لكن العائلة التي كانت منخرطة في العمل المقاوم ضد الاحتلال الاسرائيلي للبنان، لا تخفي حقيقة انها بادرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي الى خطف فرنسيين من اجل مبادلتهم بجورج عبد الله. غير أن ضغوطاً وتهديدات لبنانية وسورية دفعتهم الى تسليم الرهائن قبل فتح قناة للتفاوض حول مصير اطلاق عبد الله.
اليوم تتملك العائلة هواجس عديدة حول المستقبل. فجورج عبد الله المهدد بالقتل داخل سجنه الفرنسي، يفترض ان يحظى بحماية أمنية في بلد مكشوف امام اجهزة استخبارات الكرة الارضية. لا تعد مسألة التهديد باغتيال عبد الله من قبيل التخمين او التحليل النظري. فقد سبق لوليام كايسي William Casey، يوم كان مديراً للمخابرات المركزية الأميركية «سي أي إيه»، أن جاء إلى فرنسا مع كل العنجهية المرتبطة بممارسة هذه الوظيفة، ليمارس الضغط على الحكومة الفرنسية ممثلة بشخص روبير باندرو Robert Pandraud وزير الأمن.
يروي دو ميريتين de Meritens وفيلينوف Villeneuve قصة اللقاء في كتاب بعنوان «أقنعة الإرهاب» Les Masques du terrorisme. خلال جلسة إلى مائدة أعدها السيد باندرو: «يهدد وليام روبير بشوكة الطعام. الرسالة واضحة: إذا لم يحكم على عبد الله بالمؤبد، فالولايات المتحدة ستعتبر أن فرنسا لم تحترم القاعدة الأولى في العدالة، وأنها أخلفت بواجباتها تجاهها، ما سيؤدي إلى القطيعة الدبلوماسية. بعد بضع ثوانٍ جاء الرد نموذجياً: لدي ما هو أفضل لأقترحه عليك، قال باندرو بكل برودة. يفرج عن عبد الله. وإذا رغبتم نتناقش في التاريخ. ونرسله إلى الشرق الأوسط، ومن ثم نزودكم بكل المعلومات حوله. أنتم، الولايات المتحدة، هذه الدولة العظمى بكل شبكاتها في المنطقة، سيكون من السهل عليكم تصفيته، ونطوي الأمر نهائياً. ذُهل كايسي للعرض. لقد بان الابتزاز في العلاقات الدبلوماسية، بكل وضوحه، وبسخريته المطلقة».
لن يكون بمقدور جورج عبد الله معانقة والدته التي رحلت قبل سنوات طويلة من موعده مع الحرية. لكن سيكون امامه ساعات من العناق الطويل مع الاشقاء والشقيقات والأولاد والاحفاد. وعلى وقع نحر الخواريف وقرع اجراس الكنائس سيدخل الماركسي بلدته القبيات، ومن هناك سيقرر بهدوء يوميات حريته التي ستبدأ بوتيرة سريعة قبل ان تهدأ تدريجياً، لكنه بالتأكيد لن يكون شديد الحماسة للعودة الى التعليم الرسمي والإضراب من اجل تحصيل سلسلة الرواتب.
الجمعة ١١ كانون الثاني ٢٠١٣