بيار أبي صعب
نعم كانت مرحلة ألم ودم وموت، كانت هناك معاناة قاسية ودهاليز كافكاويّة، واستغرق عبور النفق ٢٨ عاماً. ومع ذلك، فما إن صدر أمس قرار المحكمة الفرنسية الذي تأخّر دهراً، حتّى بدا لنا اسم جورج ابراهيم عبدالله، مرادفاً للزمن الجميل. الرجل الذي نحتفظ منه بصورة قديمة تعود إلى أواسط الثمانينيّات، بلحيته الكثّة، ونظرته الحادة الكاسرة، هو بالنسبة إلى كثيرين في هذا المقلب من العالم، عنوان لجيل اليوتوبيا السعيدة...
يوتوبيا نستعيدها اليوم بشغف وحنين ومرارة، في مستنقع الردّة وتفشّي وباء الطائفيّة والمذهبيّة والعصبيّات والانعزاليّات، وانحسار الأحلام الوطنيّة والقوميّة والأمميّة، أمام مدّ الجراد الأسود الذي لا يقف بوجهه شيء، في زمن «الثورة العربيّة 2.0» (!) كان الهمّ المستحوذ على وعي جورج ورفاقه هو فلسطين، وكان مشروعهم مواجهة الاستعمار وتحقيق التقدّم والعدالة، اليوم يدور النقاش حول جواز مضاجعة جثّة الزوجة أو معايدة النصارى أو إرضاع الكبير، واليوم يدور الهمس خلف لحى الربيع المسروق، عن أرقى فنون الارتماء في أحضان اسرائيل ــــ بزيّ «مقاوم» (تائب) إذا أمكن ــــ وخدمة مصالح الاستعمار. جيل جورج ابراهيم كان يقرأ كارل ماركس، أما اليوم، فالذين في مثل عمره آنذاك، العمر الذي توقّف عنده في الصورة القديمة، يكتفون بتطبيق دفتر شروط المنظمات غير الحكوميّة للتنعّم بتمويلات تساعد على تعزيز «الحريّة» و«حقوق الانسان» ووعي «الجندر»... وطبعاً الاحتفاء بالـ Altmedia (الاعلام البديل) التي باتت على ما يبدو باباً للخلاص من العهد القديم والشفاء من جراحه. هؤلاء الشباب بعضهم لا يعرف جورج عبدالله ربّما. بل إن جزءاً أساسيّاً منهم لا يعرف شيئاً عن تلك «اليوتوبيا» التي أخذت تلميذاً شاباً اسمه سمير القنطار (المولود درزيّاً) في عمليّة فدائيّة إلى فلسطين، وحملت جورج عبدالله، أستاذ المدرسة (المولود مارونيّاً) من بلدته القبيّات، إلى (كومونة) باريس مقتفياً مثُله الثوريّة في الطريق إلى فلسطين. خرج من الرَبع والعشيرة والطائفة إلى الوطن والأمّة والانسانيّة، ليصبح مناضلاً ضدّ الصهيونيّة، تحت راية «الجبهة الشعبيّة»، ومؤسساً لما عرف بـ«الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية». كل ذلك يبدو اليوم بعيداً، لكنّه قريب أكثر مما نتصوّر...
اختار جورج ورفاقه النضال الثوري لرفع الظلم، والدفاع عن الحقّ، في مواجهة قوى مهيمنة، تطبّق سياسات دمويّة وتدعم الطغاة، من أجل حماية مصالحها على حساب الشعوب المستغلّة والمقهورة (هل تغيّر شيء منذ الثمانينيات؟). كذلك فعل مناضلو «العمل المباشر» جان ــــ مارك رويان ونتالي منينغون والآخرون. هل كانت الغاية تبرّر الوسيلة؟ ما الحدّ الفاصل بين اليوتوبيا السعيدة واليوتوبيا القاتلة؟ سؤال أخلاقي وفلسفي طالع من «العادلون» لألبير كامو، أكثر منه من «أمير» ماكيافيلي. وسائل العمل العنيفة التي تبنّاها هؤلاء، قد تكون موضع إعادة نظر بعد كلّ هذه السنوات. المراجعة ضروريّة ومطلوبة، كما كتبنا مرّة في معرض نقدنا لفيلم أوليفييه أساياس التسطيحي عن «كارلوس»... لكنّها لا تعني أبلسة الماضي أو تشويهه، ولا التجريد والتعميم، بمعزل عن معطيات المرحلة عربيّاً وأوروبياً وعالميّاً. الحقيقة تتغيّر تبعاً للموقع الذي ننظر منه إلى الأمور، كما يذكّر محامي جورج عبدالله جاك فيرجيس الذي يرافع انطلاقاً من «استراتيجيّة القطيعة». لكن نزيل سجن «لانيميزان» في جنوبي غربي فرنسا، دفع حسب أحكام القانون دينه المفترض للمجتمع، وكان القانون يسمح باستعادته الحريّة منذ العام ١٩٩٩. مع ذلك بقي في السجن ١٣ عاماً إضافيّاً. لأن الادعاء العام، باسم الدولة الفرنسيّة، كان يرى أنّه ثوري خطير قد يستأنف نضاله بعد العودة إلى بيروت. سبع مرّات طلب اخلاء سبيله، لكن سدىً. إيف بونّيه المدير السابق للـ DST (١٩٨٢ ـــ ١٩٨٥) أحد أجهزة المخابرات الفرنسيّة المعنيّة بمكافحة الارهاب، صرّح العام الماضي أنّه يعاني شخصيّاً من تأنيب ضمير بشأن هذا الملفّ: «إنّها لفضيحة أن يبقى جورج عبدالله في السجن، ثلاثين سنة بعد الوقائع». وأضاف قبل عام لـ«لو موند»، أن من حق عبدالله أن يتبنّى ما قامت به مجموعته «كفعل مقاومة» («لو موند»، ١/٩/ ٢٠١٢ ). واعتبر أن بقاءه في السجن يكتسي شكلاً انتقاميّاً من قبل الدولة الفرنسيّة، فيما وصف جاك فيرجيس هذا التشبّث بـ «القرار السياسي». بالأمس، كان روبير بادنتير، وزير العدل الفرنسي السابق الذي ألغى حكم الاعدام في فرنسا، بعد وصول الاشتراكيين إلى السلطة مع فرنسوا ميتران (1981)، يحاضر في «بيت المحامي» في بيروت عن فلسفة العدالة. وفي اليوم نفسه، كانت العدالة الفرنسيّة تطلق أخيراً سراح جورج عبدالله. مجرّد مصادفة طبعاً. بلى جورج أيقونة، والاحتفال الوحيد الممكن بحريّته المستعادة، كان مساء أمس في بيروت، أمام صيدليّة بسترس. حيث انطلقت المقاومة اللبنانيّة ضد اسرائيل. المقاومة مستمرّة، رفيق جورج، وإن بأشكال أخرى!
الجمعة ١١ كانون الثاني ٢٠١٣