كي لا يموت الديب ولا يفنى الغنم، لا إحالة لمقتل الشيخ أحمد عبد الواحد على المجلس العدلي. لكن الجيش عائد إلى قفص الاتهام. لم تنتهِ المشكلة بعد. بين السيئ والأسوأ اختير الأول. بين أن يطير الجيش، أو تطير عكّار، ذهب الجميع إلى مجلس الوزراء الذي أخرج الحل الوسط
نقولا ناصيف
لم يكن من السهولة بمكان توقع موافقة الجيش على إخراج ملف التحقيق في مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه الرقيب المتقاعد محمد مرعب من المحكمة العسكرية إلى المجلس العدلي. لم يتوقع الجيش كذلك الحصول على غطاء سياسي سنّي كامل بإنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير عند المدخل الشمالي لصيدا. كلا الحادثين منفصلٌ عن الآخر، وله دوافعه ومبرّراته المختلفة. إلا أن التصعيد السياسي جمع بينهما بغية بلوغ خلاصة واحدة هي ممارسة مزيد من الضغوط على الرئيس نجيب ميقاتي وحكومته، وعلى سلاح حزب الله، وعلى الجيش خصوصاً.
أولها الأزمة السورية، وآخرها كذلك.
تسارعت اتصالات الساعات الأخيرة من دون أن يتضح تماماً المخرج المتوقع لجلسة جلسة مجلس الوزراء مساء أمس، بعدما أرخت الاضطرابات في عكّار والتهديد بتمدّدها بثقلها.
اتصل رئيس الجمهورية ميشال سليمان بالرئيس فؤاد السنيورة وطلب منه الانضمام إلى جهود التهدئة. استقبل الرئيس قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي زار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بحثاً عن مخرج في جلسة مجلس الوزراء. بعض المحيطين بقهوجي همس له بالموافقة على إحالة مقتل عبد الواحد على المجلس العدلي منذ مساء الجمعة. لمس قهوجي في الجيش صنفين من التململ المثير للقلق: أحدهما في صفوف ضباط سنّة متأثرين بالمناخ المتفاعل في عكّار ومتعاطفين معه. والآخر في صفوف ضبّاط مسيحيين وشيعة عبّروا عن رفضهم الإحالة على المجلس العدلي؛ لأنها تنال من هيبة الجيش ومعنوياته، وتحول دون مقدرة الضبّاط والعسكريين على تنفيذ الأوامر؛ إذ يصبحون هدفاً في مرمى السياسيين.
في عطلة نهاية الأسبوع، ارتأى قهوجي عدم الموافقة على الإحالة على المجلس العدلي. صباح الاثنين استدعى رئيس الجمهورية نواب عكّار وحذّرهم من خطورة الإساءة إلى الجيش، وأن ليس من مصلحة أحد هناك التسبّب بالفوضى والفلتان. قال لهم أيضاً إن أي محاولة لإخراج الجيش من عكّار تفسح في المجال أمام تدخّل الجيش السوري في الشمال. وأبرَز اهتمامه بمعالجة المشكلة، قائلاً: أنا مع تطبيق العدالة، وسنرى كيف.
رفض سليمان إحالة مقتل عبد الواحد على المجلس العدلي، وإلى يمينه في هذا الموقف الرئيس ميشال عون.
كان الخيار بين السيئ والأسوأ. وما لا يقوله المسؤولون الكبار، وقع في نهاية المطاف الخيار الأكثر سوءاً بتداعياته: إما أن يطير الجيش، أو تطير عكّار.
بيد أن الشقّ الآخر في المشكلة كان، منذ الخميس، الكشف عن إطلاق الضبّاط والعسكريين المتهمين بإطلاق النار على عبد الواحد ومرافقه الرقيب المتقاعد. انتهت المحكمة العسكرية إلى نتيجة واضحة: لا مسؤولية مباشرة على الضبّاط المتهمين، وإن المسؤولية على العسكريين. كان على قائد الجيش انتظار نتائج التحقيق في المحكمة العسكرية وهو يراقب تململ ضبّاط محيطين به من الطريقة التي اتبع بها توقيف الضبّاط المتهمين وتأثيرها على هيبة الجيش ومعنوياته. في الحصيلة، في التوقيت الخاطىء تحت وطأة تصعيد سنّي مذهبي، وعشية خطب الجمعة، أطلق الضبّاط المتهمون، فغضبت عكار وهدّد نوابها.
ومع أن مجلس الوزراء لم يُحل، مساء أمس، مقتل عبد الواحد على المجلس العدلي، إلا أن القرار بالتوسّع في التحقيق بدا أكثر سوءاً. بعدما أيقنت المحكمة العسكرية من عدم مسؤوليتهم المباشرة، سيصير إلى التوسّع في التحقيق مع الضبّاط مجدّداً من أجل البحث عن «قشة» اتهامهم. أخرجهم القضاء العسكري أبرياء من أجل أن يتهمهم التوسّع في التحقيق بعد ختمه.
المعادلة
مع ذلك، بقي حدثا مقتل عبد الواحد واعتصام الأسير رهيني المنطقة اللتين يدوران فيها. لم يتمدّد عصيان عكّار وسدّ الطرق بمتاريس من الرمل والتضييق على تحرّك الجيش إلى سائر قرى القضاء. ولم يسع الأسير للتوسّع إلى أكثر من المكان الذي يعتصم فيه عند مدخل صيدا، خلافاً للحوادث التي كان قد شهدها الشمال، في طرابلس وعكّار، قبل أكثر من شهر وأتاح انتقال الاضطرابات إلى أبعد من نطاقها، فبلغت بيروت الغربية والبقاع الأوسط والطريق الساحلية بين بيروت والجنوب. سرعان ما تبيّن حينذاك خطورة تكرار لعبة التخويف بتعميم الفوضى.
والواقع أن أكثر من إشارة، بعضها دَمَجَ الإيحاء بالإيضاح، أرسلت إلى الأفرقاء المعنيين بتصعيد الشارع أسهمت في لجم اندفاع الجميع وتبريد رؤوسهم الحامية، وإبقاء التصعيد في حدود دنيا:
أولاها، الإشارة الصارمة التي لم ترقَ إلى حدّ الرسالة التي وُجّهت بالواسطة إلى الرئيس سعد الحريري وأقطاب تيّار المستقبل، ومفادها أن التهديد بقطع طريق الجنوب ــــ بيروت عبر الأسير غير مسموح، وأن الردّ عليه سيكون في منطقة السوليدير بحيث تشهد اعتصاماً شعبياً يشلّها تماماً. مصدر الرسالة حزب الله الذي ضمّن الإشارة تلك التأكيد أنه لن يُقابل قطع الطريق الساحلية بين الجنوب وبيروت بردّ فعل مذهبي، ولا بنزاع عسكري، ولكنه ينظر إلى السوليدير كمنطقة تعني الحريري أكثر من سواه على أنها تقع في نطاق شركة خاصة، ولا تمثّل تجمّعاً شعبياً، ولا هي تماس سنّي ــــ شيعي.
وعندما يرى حزب الله أن الحريري وتيّار المستقبل مسؤولان عن تحرّك الأسير الذي يحظى برعايتهما، وفي أحسن الأحوال غذّياه وحرّضاه وتفيدهما الموازنة التي يجريانها بين اعتصامه وظاهرته كسلاح غير شرعي وبين سلاح حزب الله، ليس للرئيس السابق للحكومة عندئذ الاعتقاد بأن في وسعه إدخال المناطق اللبنانية في فوضى وشغب وإبقاء شركته الخاصة ــــ وهي السوليدير ــــ جزيرة في منأى عن كل ما يحيط بها.
ثانيها، أكد حزب الله أنه لن يسمح باستدراجه إلى نزاع مذهبي. لا يعدو اعتصام الأسير صورة كاريكاتورية ليس إلا. لم يتقبّل الحزب في أحداث الشهر الماضي في طرابلس وعكّار تداعياتها في مناطق أخرى أدّت إلى إقفال طريقين دوليين يعدّهما حيويين لأمنه وأمن المقاومة، هما طريق سعدنايل في البقاع الغربي المؤدية إلى بعلبك والهرمل، وطريق الناعمة في الشوف الساحلي بين الجنوب وبيروت. عندما انتبه إلى وجود أنصار للحزب التقدّمي الاشتراكي في عداد قاطعي هذه الطريق، أرسل إلى رئيس الحزب النائب وليد جنبلاط يُنبئه بخطورة ما يجري. فسحب الزعيم الدرزي هؤلاء.
ثالثها، أن حزب الله نظر بقلق إلى تحريك ثلاثة محاور تمثّل تماساً سنّياً ــــ شيعياً اختبرت في أحداث الشمال هي المدينة الرياضية ــــ الطريق الجديدة، وطريق سعدنايل ــــ البقاع الشمالي، وطريق الناعمة ــــ بيروت، ثم أتى تحرّك الأسير كي يوحي باحتمال السيطرة على طريق الجنوب ــــ بيروت. لم يكن هذا التحريك الدافع الوحيد الذي أشعره بمحاولة استدراج إلى نزاع مذهبي، بل وجد أيضاً في خطف الزوّار الشيعة الـ 11 في ريف حلب محاولة متعمّدة لإحداث ردّ فعل مذهبي داخل لبنان، من دون أن يكون الحريري معنياً بعملية الخطف في سوريا هذه أو جزءاً من تداعياتها. كذلك تجاهل الشتائم التي ساقها الأسير إلى رئيس المجلس نبيه برّي والأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله.
الثلاثاء ١٠ تموز ٢٠١٢