أثارت حادثة خطف اللبنانيين في سوريا، أثناء عودتهم من زيارة العتبات المقدسة، أسئلة عن هذه الأماكن ومعنى زيارتها عند أبناء الطائفة الشيعية. يقولون إنها ليست «سياحية». هي زيارات لـ«تثبيت الولاء والعقيدة». هكذا يحيون ذكرى «مظلومية» تعود إلى قرون خلت، لكنها ما زالت تنبض في الوجدان الشيعي
محمد نزال
منذ إعلان خطف 11 لبنانياً في سوريا، قبل 8 أيام، أثناء عودتهم من زيارة العتبات المقدسة في إيران، بدأ البعض يسأل عن ماهية هذه العتبات، ودوافع زيارة المسلمين الشيعة لها، متحمّلين عناء السفر براً، ومخاطر الطريق. لكن، من يسمع أحد «عُشاق الزيارة» مردّداً: «لو قطّعوا أرجلنا واليدين.. نأتيك زحفاً سيدي يا حسين»، لا بد من أن يستوقفه الأمر، للبحث عن شيء ما في «المظلومية» الموغلة في الوعي الشيعي.
توفيق حيدر، الثلاثيني، ما عاد يحصي عدد المرّات التي زار فيها ضريح الإمام الحسين في كربلاء. يحفظ عن ظهر قلب كلّ الأذكار التي تُتلى في الزيارات، إذ لكل إمام من أئمة الشيعة الاثني عشر زيارة خاصة. الشاب «المولع بحب بأهل البيت»، يعرف الطريق جيداً إلى مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد في مدينة الكاظمية. هو ليس «مولعاً» بالشعب الإيراني، لكنه لم يستطع إلا الذهاب إلى مدينة مشهد الإيرانية، حيث مرقد الإمام علي الرضا. درج الشيعة، بحسب توفيق، على تسمية الإمام المذكور بـ«باب الحوائج»، إذ يقصده الناس من بعيد لـ«التبرّك به والدعاء إلى الله من عنده، أملاً باستجابة سريعة لما له من كرامة عند الله».
طارق، «عاشق» آخر، «أدمن» زيارة العتبات المقدسة. «ما عدت أخاف أهوال الطريق، المهم أن أصل إلى أئمتي، إلى حيث أجدني إلى الله أقرب». يعرف طارق كل «الأهوال التي مرّت على الشيعة، منذ العصر الأموي وبعده العباسي، وصولاً إلى اليوم، من قبل الحاكمين، وأعرف كل ما لحق بمحبّي أهل البيت من تنكيل. هذه التضحيات كانت من أجل الثبات على موقف النبي وأهل البيت الرافض للظلم». المسألة بالنسبة إلى هؤلاء الزوّار ليست سياحة، ولا لـ«تغيير الجو»، بل «تعبير عن صدق العاطفة تجاه أهل البيت، وتمتين للعلاقة الروحية مع مبادئهم وقيمهم».
ينطلق رئيس معهد المعارف الحكمية، الشيخ شفيق جرادي، من مقولة: «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا»، لتظهير الغاية الأصيلة من زيارة العتبات المقدسة. هذه المقولة المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق، يمكن رؤيتها، بكثرة، على لافتات في طرقات الضاحية مثلاً، مع حلول ذكرى عاشوراء من كل عام. يوضح جرادي أن مسألة الزيارات تُقارَب، غائياً، من ثلاث نقاط: «أولاً، هي إحياء لذكر النبي وآل بيته، وفي هذا تظهير دائم لما حملوه من قيم، وبالتالي طريقة لتوثيق الرابطة العقائدية معهم. وثانياً، هي بمثابة تثبيت للهوية الشيعية، التي تتجاوز الحدود المادية مع الأئمة، لتصل إلى البعد الوجداني المتحلق حولهم، من جانب الزائرين الآتين من مختلف بقاع العالم، مع ما يحملون من اختلافات ثقافية ولغوية». ويضيف، شارحاً النقطة الثالثة: «هي طلب الشفاعة من آل البيت، التي نؤمن بأنها كرامة للنبي وآل بيته عند الله، وهذا اعتقاد مشترك بين الشيعة وبين الكثير من السنة، وتحديداً الصوفية والأشاعرة، باستثناء السلفيين الذين يكفرون الزوّار من الشيعة والسنة على حد سواء». لا يفوت الشيخ إيضاح أن «المرجع الديني في مصر، أي الأزهر، يتبع للمدرسة الأشعرية، وهو لا يحرّم الزيارات إلى العتبات المقدسة للأئمة والأولياء، ولهذا في مصر الكثير من المقامات التي يزورها المصريون وسواهم».
يرى جرادي في زيارة الشيعة لتلك العتبات «متنفساً لإحساسهم بالمظلومية التاريخية، علماً بأننا لا نحبذ الخوض في هذا الأمر حالياً؛ لأننا من دعاة الوحدة». يُذكر أنّ في أدبيات الشيعة روايات زاخرة بالتنكيل الذي كان يلحق بهم، خصوصاً في زمن الخليفة المتوكل العباسي، الذي «هدم مقام الحسين ومنع زيارته، تحت طائلة القتل، وقد قتل الآلاف فعلاً، خوفاً من اتساع الحالة الثورية الحسينية الملهمة التي كان يرى فيها تهديداً لحكمه وسلطانه». ولا يزال الوجدان الشيعي، حتى اليوم، يضجّ بـ«المظلومية التي لحقت بزوار الحسين في القرن الثامن عشر، حيث يُحكى عن 10 آلاف زائر قتلوا هناك، وقد دفن هؤلاء في المساحة الواقعة بين ضريح الحسين وأخيه العباس».
ثمة كلمة للكاتب الإيراني الراحل، الدكتور علي شريعتي، تلخص ربما غاية الشيعة من زيارة عتبات النبي وأئمتهم، وفيها أن «زيارة هذه التربة تساعد الجماهير على التفكير بثورة الحسين وجهاده ومقارعته للظلم، والاهتمام بفضح السلطة الحاكمة. فهكذا تتحول هذه التربة إلى رمز وشعار».
الأربعاء ٣٠ أيار ٢٠١٢