كفاح عفيفي تلبس كنزة خُبّئت فيها أشغال الأسيرات

عاصم بدر الدين

الأسر والإهمال، عنوانان قاسيان على صفحات التحرير، وإذ يـــبدو الأوّل طبيعيّاً وعاديّاً بعد الاحتلال، فإنَّ الثاني يبدو مستغرباً، أو يُفترض أن يكون غريبــاً. وإذا كانت كفاح عفيفي، الأسيرة المحرّرة، قد أصــرّت على العــمل بعد الاعتقال في قضيّة الأســرى والمعتقلين، فإن الناقورة، البلدة الحدوديّة التي تجــاور فلسطين، لم تــقرّر ما آلت إليه أمورها الاجتماعيّة والاقتصــاديّة. وفيــما يزيد هجران أهلها لها، مأساة عيشها في الهامش، لا يعيــنها وجــود مقر قــيادة قوات الطوارئ الدوليّة في إنعاش الدورة الاقتصادية.

وسط هذا، تبدو الحياة في تلك المنطقة المحررة قد تبدّلت، وإن كان ذلك لم يظهّر بعد، لاسيما أن سكان الأمس ليس هم نفسهم ومئة في المئة سكان اليوم. وبعدما كان مجتمع الشريط تحت الاحتلال محاصراً ومعزولاً وتابعاً لدولة «عدوّة»، فإن عودته إلى الوطن جغرافيّاً لم تخرجه من دائرة الهامشيّة، و«النهضة» العمرانيّة التي يشهدها ليست تنموية أو نمواً طبيعيّاً تزرع في تلك الأرض، إنما تابعة لاغتراب وهجرة...

صارت كفاح عفيفي منذ الثالث من آب العام 1994 أسيرة محررة. لم يكن خروجها من معتقل الخيام تاماً. انسحب أثره إلى الحاضر. تمدد أيضاً في اللغة. دخل المعتقل في بنية كلامها. تسرد تجربتها كما لو أن للمعتقل كلامه الخاص، لا يماثل حكينا اليومي. يخرج في مساحات ضيقة ومكثفة. يستغني عن تنويعات اللفظ. يحيل الزمن البطيء إلى أسطورة. تشغله التفاصيل. يخترع من التكرار استمراريته. هكذا، عاشت كفاح ورفيقاتها المعتقلات على السرد وإعادة السرد. لا يخلو ذلك من اختراع للسير. كان "نضالاً ضد الملل".

تبدأ الحكاية من مخيم صبرا وشاتيلا. تشكل وعي كفاح على "يتم الأرض" والمجزرة. استشهد ثلاثة من أشقائها الخمسة. كان رابعهم معتقلاً. تحضر فلسطين دائماً في مرويات أبويها الفلسطينيين الآتيين من حيفا. لا يشغل بالها معنى عمرها الصغير. تفكر في فلسطين. شاركت في حرب المخيمات. قضت مأساتها المعيشة على خوفها. دخلت في "فتح". قادت فرقة تشكلت من ستة شبان. ذهبت معهم إلى كفركلا. لم يسبقها إليها إلا "الحر العاملي" قبل أيام من عمليتها. لم يكن جنسها عائقاً بالنسبة إلى رفاقها. تفكر أن لا فرق بين رجل وامرأة حتى لناحية القوة والقدرة على القتال. مشوا ثلاثة أيام. وصلوا إلى القرية ودخلوا أحد بيوتها. كان بيت عميل. لا تعرف كيف حوصر البيت فجأة. اشتبكوا مع القوات الإسرائيلية. جُرحت مع بعض أفراد فرقتها. ثم اعتقلوا في 24 تشرين الأول 1988.

أُخذت إلى فلسطين. ستقول إنها فكرت عند تعذيبها أنها "خلص، رأت فلسطين". تكفيها هذه الرؤية. كانت تتمنى الشهادة في أرضها. تضحك حين تستدرك أنها لم تُحصِّلها. يتفسخ الحكي. يصير مضحكاً. يتكرر الأمر في مشاهد فيلم جان شمعون "أرض النساء" (2004). جسدت كفاح فيه خيط الوصول إلى مناضلات أخريات. تتذكر مع سهى بشارة تفاصيل من يوميات بؤسهما وتضحكان. ليس بعيداً هذا من تجاوز الاعتقال والحجز لواقعيته: داخل العالم وخارجه.

أُعيدت بعد فلسطين إلى معتقل الخيام. بدا وصفها له بأنه "أفظع سجن في العالم" متعدياً المعنى المباشر للكلمات. كانت هذه من المرات القليلة التي يرافق التنغيم أو الانفعال كلامها. كأن المكان يفوق الوصف. احتفلت فيه بعد أيام قليلة من وصولها بسنتها السادسة عشرة.

كانت تنقل يومياً إلى مرجعيون حيث يحقق معها. قسوة التعذيب لا توصف. ضرب وكهرباء. هددت بالاغتصاب. قالوا لها إن الطائرات قصفت منزل أهلها. لم تصدق. لم تخف. كانت تلجأ إلى الأغاني الوطنية. تصبّرها. مات الخوف قبل أن تصل إلى المعتقل. لا تعرف كيف تفسر غيابه بغير قوة عقيدتها. تفكر بآمنة جبريل ودلال المغربي وفدوى طوقان وسميحة خليل كأمثلة للنضال النسائي. لو أن التجربة تكررت الآن لخافت، تقول. كانت وقتها وحيدة. تغيرت الأحوال في الراهن.

حاولت التأقلم سريعاً بمساعدة زميلاتها. كانت محرومة من الزيارات. لا تصل إليها الأغراض التي يرسلها أهلها. كن يقاسمنها أغراضهن. كانت الأصغر بينهن. كن تقريباً خارج الحياة. بلا شمس. اخترعن وسائل خاصة بعيشهن المحجوز. لا يمكن من لم يكن معهن أن يفهم كيف يصير لبذر الزيتون قيمة. أو كيف تصبح ربطات أكياس الخبز صالحة لغير وظيفة. اشتغلن بما لديهن. صنعن فن المعتقل. تتحول الأشياء الصغيرة أساطير أو معجزات. اخترعن الأمل بالأشغال الحرفية. تحول السعال رسائل مشفرة بينهن. أسسن حياة مكتومة. تروي كفاح كيف كن يتعرفن إلى الرجال الموجودين في السجن المقابل. يكتبن على المناديل. يراها الرجال. يخطبون بعضهم بعضاً في الوهم من دون لقاء.

وضعت في الأيام الأخيرة لاعتقالها في سجن منفرد بسبب مرضها. لم يهتموا بعلاجها. كانت المياه تسقط على جسدها وتتجمع في أذنها. قالت إنها أحست بالموت وقتها. يدخل مسؤول السجن ويطفئ سيجارته في جرحها الذي تدهورت حاله. كأنه يقرب موتها. تمنت حينها أن تموت بين رفيقاتها. لم تعد تفكر في شيء آخر. نقلت إلى غرفتها: الزنزانة الرقم 4. خافت حين طالبوها بالخروج من الغرفة مرة أخرى. لم تعرف السبب. تقول إن سهى بشارة كانت تسعل لها، إشارة تدل على قرب خروجها. لم تستوعب. أُلبست الكنزة التي خُبئت فيها الأشغال اليدوية. قال لها مرافقها في السيارة إنها ذاهبة إلى الإعدام. أغلقوا عينيها. بقوا حتى اللحظات الأخيرة يتعمدون تعذيبها. طالبتهم بأن يُرجعوا المشاية التي تلبسها إلى صاحبتها في المعتقل. لا شيء آخر قبل إعدامها. لكنها سلمت إلى "الصليب الأحمر".

استئناف الحياة بعد المعتقل لم يكن سهلاً. خرجت لتستكمل نضالها فوجدت الوضع الإقليمي قد تغير. جربت أن تبدأ دراساتها الجامعية. لكنها عادت إلى الاهتمام بقضية الأسرى. تسافر لتعرض تجربتها في المعتقل. تقول إن الحكي عن القضية يفيدها. تميزت بأنها تروي ما لا يُقال في العادة. اشتغلت أيضاً في لجان محلية لدعم قضايا الأسرى المعتقلين والمحررين من أجل تحصيل مطالبهم. تعرفت نتيجة ذلك إلى الأسير محمد رمضان. لم تكن تعرفه من قبل. سمعت عنه بعد خروجها. يسكن أهله في جوار بيت أهلها. تعرفت إليهم. ثم تعرفت إليه حين خرج. لم تمض 6 أشهر حتى تزوجا.

بقي المعتقل حاضراً في يومياتهما. كانا يذهبان أسبوعياً مع معتقلين آخرين إليه. يتذكرانه مع أطفالهما. يعيِّشان ألمهما. يظهر التأثر واضحاً عند ذكرها تدمير المعتقل في حرب تموز 2006. تفقد قدرتها على ضبط انفعالاتها. كان دليل الظلم الذي تعرضت له. لا تزال تذهب إليه. لكن أقل من الأول.

سيناضلان سوياً من أجل تحصيل حقوق الأسرى. يخرج الأسير من معتقله لا يعرف شيئاً. "كأنه ولد من جديد. لا يقف أحد إلى جانبه. لا تهتم الدولة به". تُذكِّر بالاعتصامات التي نفذها الأسرى المحررون في العام 2001 أمام مجلسي النواب والوزراء. أضربوا عن الطعام أياماً. كانوا ينزلون مع أولادهم. تحول الشارع بيتاً. استمر اعتصامهم الأخير في حزيران من العام نفسه 21 يوماً. صدر بعدها قانون تعويض الأسرى ليعاملوا جزئياً مثل متقاعدي الجيش. لم يكن القرار الأحسن، بل الأقل سوءاً إذ "نَفَس قليلاً". أسست كفاح بعدها بالاشتراك مع أسرى مستقلين، غير تابعين لأحزاب، "جمعية أسير". لا تزال الجمعية غير مفعّلة. لكنها تطمح من ضمنها إلى تجميع أرشيف خاص بكل المعتقلين في لبنان. تبقى المشكلة في تأمين تمويل للمشروع. يقلقها أن تخسر قضية فلسطين مركزيتها. ويهمها أن يهتم أكثر بقضايا الأسرى في السجون الإسرائيلية.

الأكثر قراءة