طرابلس تدفع ضريبة التحريض من دمها.. من يبدّد قلقها المفتوح؟

غسان ريفي

لماذا تُركت طرابلس وحيدة على مدى ثلاثة أيام في مواجهة مصيرها المكتوب بحسابات السياسة المتسللة تحت «عباءة السلفيين» ومطالبهم، والمسلحين الفالتين من عقال كل السياسيين، ولماذا تهيّبت الدولة الموقف وانكفأت تاركة الشارع في أيدي «أشباح» استباحوا أحياء المدينة عن «بكرتها وأصيلها»، وانتشروا بين شوارعها الكبرى والصغرى يُسيّرون دوريات «راجلة ومؤللة»، ويستعرضون أسلحتهم الجديدة عند حواجزهم «الطيارة»؟

يخطئ من يعتقد أن معارك طرابلس العسكرية هي نتيجة تحرّك مطلبي رفضاً للاعدالة في قضية الموقوفين الإسلاميين، أو اعتراضاً على توقيف شخص بتهمة الانتماء الى «القاعدة» وأخواتها، لأن مسار الفراغ الأمني بدأ بالتدحرج منذ العاشر من شباط الماضي، عندما انفجر مستودع أسلحة وذخائر في منطقة أبي سمراء في طرابلس، وما تلاه من اشتباكات مفاجئة في التبانة، نجحت في إقصاء قضية انفجار المستودع عن الواجهة، ثم طوي التحقيق في هذه القضية برغم سقوط ضحايا وتوقيف أشخاص أفرج عنهم لاحقا بلا أي ضجيج.

في 22 نيسان 2012، عبرت طرابلس قطوعاً أمنياً جديداً عندما نجحت مسيرة ضد النظام السوري في افتعال إشكال أمني مع «حركة التوحيد الإسلامي» في محلة أبي سمراء، بعدما فشلت في استدراج مواقع أخرى مصنفة في خانة «القوى الحليفة لسوريا في طرابلس».

في 27 نيسان 2012، ضبط الجيش اللبناني الباخرة «لطف الله 2» وعلى متنها ثلاثة مستوعبات من الأسلحة والذخائر في مرفأ طرابلس.

في 8 ايار 2012، ضبط الجيش كمية من الذخائر مهربة في سيارتين إلى المدينة عبر المرفأ عينه.

وبين كل محطة من تلك المحطات، كانت ترتفع وتيرة التوتر في المدينة بتظاهرات أسبوعية ضد النظام في سوريا، ما لبثت أن انضمّت إليها اعتصامات متكررة في ساحة عبد الحميد كرامي (النور) للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين الإسلاميين، وتحوّلت إلى اعتصام دائم تحت خيمة للإفراج عن موقوف واحد من بينهم (طارق مرعي)، خصوصاً بعدما تم الإفراج عن العميد فايز كرم المدان بالتعامل مع إسرائيل، إلى أن تم توقيف شادي المولوي يوم السبت الماضي بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي، فارتفعت وتيرة الاعتصامات في ساحة كرامي، وتطورت إلى قطع الطرق المحيطة بها بالإطارات المشتعلة، وتمدّد الوضع نحو أحياء عدة في المدينة، ليتطور الى انتشار مسلح غير مسبوق في تاريخ طرابلس منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى يومنا هذا.

كانت الأمور واضحة منذ البداية: ثمة شيء ما يتم تحضيره للمدينة في «الغرف السوداء». حتى أبسط المتابعين كانوا مقتنعين بأن طرابلس على شفير مشكلة كبرى وأن الاحتقان المتراكم سينفجر بقوة... لكن المفارقة أن أي إجراء لم يتّخذ من قبل أحد لتدارك الموقف ومنع الانفجار.

جاءت معارك التبانة المتجددة فجر يوم الأحد الماضي، من خارج السياق، إذ لا علاقة بين تلك التحركات الاحتجاجية (توقيف الاسلاميين والمولوي) وحالة التوتر المستمرة بين التبانة وجبل محسن كجزء من جرح مفتوح منذ 12 أيار 2008 على خلفية أحداث 7 أيار في بيروت.

ساد الارتباك جميع القوى السياسية التي لم تكن تتوقّع أن يصدق حدسها. لكن الارتباك الأكبر ساد في أوساط فريق «الحكومة الطرابلسية». فالرئيس نجيب ميقاتي كان يعرف أنه مستهدف مباشرة في كل تلك التحركات والقلاقل الأمنية، وهو كان على اطلاع بحيثيات موثقة لقرار استراتيجي بإسقاط الاستقرار في طرابلس، كي يقال إنه لا يستطيع الحفاظ على استقرار «بيته» فكيف سيحفظ استقرار كل لبنان وأن الأمور لن تستقيم إلا بسابع من أيار جديد، ساحته طرابلس، لتصحيح الانقلاب الذي حصل منذ سنة ونيف على سعد الحريري.

برغم ذلك، وقع ميقاتي في حالة من الارتباك في طريقة التعامل مع ذروة الهجوم المنظّم على المدينة. واكتشف أنه أمام معادلة صعبة ومؤذية في جانبيها:

الأول، دفع الجيش لمواجهة حالة تريد تحويل المدينة إلى نموذج أكبر لـ«مخيم البارد»، مع ما يعني ذلك من مواجهة بين الجيش وشريحة من أبناء المدينة، علما أنه لم يسبق لرئيس حكومة أن استخدم الجيش في مواجهة مع المواطنين لوقف اشتباكات، والأمثلة كثيرة منذ تجربة الرئيس الشهيد رشيد كرامي في العام 1975 إلى تجربة الرئيس فؤاد السنيورة في العامين 2007 و2008. وثمة خشية دائمة لرؤساء حكومات لبنان من استخدام الجيش ضد أي مشكلة أمنية في الشارع، فكيف إذا كان هذا الشارع هو شارع مدينة ممثلة في الحكومة برئيسها وأربعة وزراء منها؟

الثاني، محاولة تغليب الحكمة في التعامل مع الأزمة برغم ما تحمله من مخاطر استمرارها لوقت أطول، وهو ما لجأت إليه الحكومة في معالجة المشكلة الحالية، مع ما يعني ذلك من مخاطر أن يكون الأمن بالتراضي.

في المحصلة، تمكن الجيش من فرض معادلة أن الأمن حاجة وطنية لأهل طرابلس كما لكل اللبنانيين، وفرض على السياسيين بمختلف مشاربهم، أن يرفعوا الغطاء السياسي عن كل المسلحين، حتى يكون قرار استعادة الأمن مهما كانت كلفته، موضع إجماع وطني، وبالفعل، كان ذلك كافياً لانكفاء المسلحين، ولو أن السلاح قابل للاستخدام مجددا.

على مدى ثلاثة أيام، تحوّلت طرابلس من صندوق بريد لرسائل تكتب بدماء فقراء باب التبانة وجبل محسن والقبة، إلى ساحة لتنفيس احتقان اقليمي وتحديدا سوري.. وهذا يعني، أنه في غياب الحوار الوطني والإجماع حول سياسة «النأي بالنفس»، ستكون جولة الحرب المقبلة أشرس من المعركة التي انتهت، وأن أسلحتها قد تتطور لتتمكن من تدمير الحجارة المتهالكة على جانبي شارع سوريا الفاصل بين التبانة وجبل محسن، وكذلك تهشيم صورة ما بقي من الدولة في طرابلس تمهيداً لإسقاطها في لبنان.

المجريات الميدانية

شهدت طرابلس، أمس، سباقاً بين من يريد ضبط الوضع الأمني ومن يريد إعادة عقارب الساعة الى الوراء وإبقاء المدينة في حالة الفلتان الذي عاشته على مدار الساعات والأيام الثلاثة الماضية.

فما ان استبشر الطرابلسيون خيراً بانتشار الجيش اللبناني في مناطق التبانة والقبة وجبل محسن والحارة البرانية والمنكوبين والذي بدأ فجرا واستمر حتى ساعات الظهر وأخمد نيران المعارك الضارية، وبدأت معه المدينة باستعادة بعض من حيوتها، حتى جاءهم صوت الرصاص ودوي القنابل اليدوية من أسواق المدينة الداخلية بفعل اشتباكات حصلت بين عائلتي النشار وهاجر على خلفية سياسية شاركت فيها عناصر سلفية، وأخرى تابعة لقوى 8 آذار.

وشملت تلك الاشتباكات سوق الصاغة، سوق العطارين، وسوق البازركان وأوقعت جريحين هما أحمد داوود وتوفيق حمود، ما أعاد الأمور الى نقطة الصفر فأقفلت المحال التجارية أبوابها وخلت الشوارع سريعا من السيارات، إلا أن الأمر لم يدم طويلا حيث بدا واضحا أن التوجيهات التي أعطاها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى قيادة الجيش كانت واضحة بعدم التساهل مع أية محاولات للعب بأمن المدينة.

وعلى الفور، سارع الجيش بمؤازرة فهود قوى الأمن الداخلي الى تطويق الاشتباكات بعد اتصالات عملت على خطها لجنة المساعي الحميدة وعدد من القيادات السياسية، لكن ذلك لم يثمر إعادة الحركة الى الشوارع التي بقيت خالية من السيارات والمارة بعد الظهر.

وبالعودة الى انتشار الجيش في المناطق الساخنة، فقد نجح الجيش اللبناني في ضبط الوضع الأمني وإسكات صوت الرصاص والقذائف الصاروخية، فعاد الأهالي الى منازلهم لتفقد الأضرار، فيما عملت الوحدات العسكرية على تسيير دوريات راجلة ومؤللة في مختلف المناطق، وأقامت فهود قوى الأمن الداخلي حواجز ثابتة في مختلف الشوارع وعملت على تفتيش السيارات والتأكد من أوراق أصحابها، كما أوقفت عددا من الدراجات النارية المخالفة.

الجيش: الأمن حاجة وطنية

وصدر عن قيادة الجيش اللبناني البيان الآتي: «استكملت وحدات الجيش فجر اليوم (أمس) عملية الانتشار في المناطق التي شهدت اشتباكات مسلحة في طرابلس، وخصوصاً في أحياء جبل محسن وباب التبانة وشارع سوريا، وأعادت الوضع إلى طبيعته، وهي تقوم بتسيير دوريات وإقامة حواجز في شوارع المدينة لمنع الإخلال بالأمن ولتمكين المواطنين من ممارسة حياتهم الطبيعية. كما تم تعزيز قوى الأمن الداخلي في المدينة للمساعدة في تسيير أمور المواطنين وحفظ النظام.

إن قيادة الجيش إذ تأسف لسقوط الضحايا البريئة في صفوف المدنيين والعسكريين، تؤكد أن فرض الأمن هو حاجة وطنية لكل اللبنانيين، وأن الفوضى لن تكون في مصلحة أحد، وأن وجود الجيش في طرابلس أو في أي منطقة أخرى هو لحماية الاستقرار فيها، وليس لمواجهة الأهالي أو الاشتباك معهم، ولهذه الغاية لا تعنيه المواقف التحريضية أو الاستفزازية الصادرة من هنا أو هناك، والتي تدعو الجيش مرّةً لعدم التدخل، ومرّةً لضرب شعبه وبالتالي توريطه في أوضاع تسيء إلى دوره، ولا تخدم أمن المواطنين واستقرارهم.

إن قيادة الجيش تراهن مجدداً على وعي أهل المدينة ووقوفهم إلى جانب جيشهم، وتؤكد قرارها الحاسم بإزالة كل المظاهر المسلحة من المدينة، بما في ذلك إطلاق النار من دون إنذار باتجاه أي مسلح فور مشاهدته، كما أنها ستقوم بكلّ ما من شأنه الحفاظ على السلم الأهلي ومنع الفوضى».

ويعقد مجلس الأمن الفرعي في الشمال اجتماعا في سرايا طرابلس عند الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم، بمشاركة وزير الداخلية العميد مروان شربل.

يذكر أن التدابير الأمنية تركت ارتياحا في صفـوف المواطنين الذين توجهوا صباحا الى أماكن عملهم، فيما أبقـت المدارس أبـوابها مقفلة على أن تستأنف التدريس المعتاد اعتبارا من صباح اليوم.

في غضون ذلك، باشرت الورش الفنية في بلدية طرابلس وكهرباء لبنان وسائر المؤسسات بإصلاح الأعطال التي خلّفتها المواجهات، على أن تقوم الهيئة العليا للاغاثة بالكشف على الأضرار في الساعات المقبلة.

وتفقد رئيس بلدية طرابلس الدكتور نادر غزال مناطق التبانة وجبل محسن واستمع الى شكاوى الأهالي الذين طالبوا بالاسراع برفع الردميات من الشوارع وإعادة تنظيفها، وأكد غزال أن المعاناة واحدة في هذه المنطقة التي تضم التبانة وجبل محسن، ونحن بتنا نأسف أن تتحول الى صندوق بريد بدلاً من أن يسعى الجميع الى إعادتها لسابق عهدها «باباً للذهب» وليس باب التبانة. وقال غزال إن البلدية أوعزت الى رؤساء الدوائر بمباشرة العمل فور جهوزية الشـارع وأهليته لاستقبال آليات التنظيف وورش الطوارئ.

وعقد نقباء المهن الحرة اجتماعا في دار نقابة المحامين في طرابلس، وأكدوا أن أمن طرابلس والطرابلسيين فوق كل اعتبار وأن طرابلس مدينة للسلام والعيش المشترك والمصالحة المستمرة وهي ترفض كل مظاهر التفرقة والتقاتل وتعتبرها غريبة عن طبيعة أبنائها. وأكد المجتمعون عدم قبولهم «ببقاء طرابلس بؤرة للنزاعات وصندوق بريد للرسائل المتفجرة».

الأكثر قراءة