طرابلس: نحو منطقة عازلة لـ«الثورة السوريّة»

طرابلس «مدينة المسلمين» أولاً. و«مدينة الثورة السورية» ثانياً. «شاء من شاء وأبى من أبى». على الأجهزة الكفّ عن إيقاف سفينة سلاح هنا، أو ناشط جهادي، هنا أيضاً. فإما أن تكون المدينة منطقة عازلة خدمةً لـ«الثورة» السورية أو لا تكون

غسان سعود

الساعة الواحدة بدأت العملية. خلال ثلاث ساعات تحقّق الهدف: سقطت طرابلس في قبضة من يوصفون في عاصمة الشمال بالسلفيين. لا يتجاوز عدد الإسلاميين المتشددين عشرين في المئة من المقيمين في عاصمة الشمال. لكن، في لحظة تخلٍّ رسمي عن طرابلس، يمكن من يوصفون بالسلفيين أن يفوزوا بكل المدينة. ابن طرابلس، المدير العام للأمن الداخلي، يكرّر منذ عام 2007 عبارة تلخّص الوضع: إذا غابت الدولة، فلن يحتاج أي فريق مسلح إلى أكثر من 70 رجلاً للسيطرة على عاصمة الشمال. هذا ما جرى في الثمانينيات مع حركة التوحيد.

فهمُ ما يحصل هناك يستوجب مقارنة البيان الصادر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبيان وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي. دعا الأول إلى «التشدد في ضبط الوضع الأمني وإعادة الهدوء الى المدينة»، بينما ذكّر الثاني بتحذيره منذ «6 أشهر من تردي الوضع الأمني في طرابلس»، مطالباً الحكومة بـ«تغطية الأجهزة الأمنية لتتمكن من القيام بواجباتها»، ليتبين بالتالي أن ميقاتي يود إعادة عقارب الساعة 48 ساعة فقط إلى الوراء، أما كرامي فملّ الهروب الميقاتي إلى الأمام؛ هو المدرك أن التعبئة المذهبية والأمنية التي تشهدها المدينة منذ ستة أشهر ستدفعها إلى الانفجار «إذا مش اليوم بكرا، وإذا مش بكرا اللي بعدو أكيد».

من أحاديث الطرابلسيين يتبين أن النأي الأمني (الفريد من نوعه) بالنفس أسقط القانون وهيبته في المدينة: بإمكانك أن تقتل هنا قتيلاً وتمشي علانية حراً طليقاً في جنازته، إذا سارعت عائلتك إلى التظاهر قبالة محكمة المدينة، أو زارت المدير العام للأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، أو ضمّتك إلى لوائح تيار المستقبل لـ«المستضعفين المستهدفين». العصابات التي تسلب الناس سياراتهم وأشياء أخرى انتشرت. أما المقاتلون السوريون، فيسرحون في المدينة بأموال كثيرة ويمرحون على شاطئها وفي جارتها القلمون. حلّت الأسلحة الرشاشة محل الأمواس في الإشكالات الفردية اليومية. سقطت هيبة القانون ومعه غالبية المؤسسات، ليبقى الجيش الذي يواظب على التذكير بـ«هيبته» كل بضعة أيام، والأمن العام الذي خرج إلى سطح العمل الأمني قبل أسابيع.

وهنا بقية الرواية: «شادي المولوي كان مجرد ذريعة لإيصال رسالة (أذاعتها منسقية تيار المستقبل في المدينة بوضوح لاحقاً)»، يقول أحد المطلعين على ما تشهده المدينة. ويروي المصدر عن تحرك خمس مجموعات انطلاقاً من الواحدة ظهراً بطريقة منظّمة: الأولى تخص الشيخ سالم الرافعي الذي انتقل من العمل الإسلامي في ظل تيار المستقبل إلى قيادة واحدة من أكبر المجموعات الإسلامية في طرابلس وأشدها تأييداً ودعماً (معنوياً أقله) لـ«الجيش السوري الحر». مجموعة الشيخ حسين صباغ. مجموعة عميد حمود التي باتت تضم غالبية المقاتلين المحسوبين على النائب محمد كبارة. مجموعة خالد ضاهر وفيها غالبية المقاتلين العكاريين الإسلاميين المقيمين في طرابلس. ومجموعة «الجيش السوري الحر» التي تتألف من عشرات المقاتلين السوريين الذين تكرر أخيراً ظهورهم علانية مدججين بالأسلحة في شوارع المدينة وخصوصاً في منطقة أبو سمرا.

كان «الاحتجاج» على توقيف المولوي «حضارياً بامتياز» بحسب وصف عضو كتلة المستقبل النائب خالد ضاهر. تعني الـ«حضاري» هنا انتشار مئات المسلحين في مختلف أنحاء المدينة مدججين بالأسلحة الحديثة وأجهزة الاتصال. أما الـ«سلمي» عند النائب العكاري فيبدأ باستعراض الشباب جهوزيتهم العالية من أكياس الرمل التي تمترسوا خلفها في نقاط تماس جديدة، إلى الإطارات في شوارع المدينة، والدراجات النارية التي أتاحت للمسلحين التنقل بين الشوارع التي عزلت عن بعضها البعض بالإطارات المحروقة. (وتأتي صورة المؤسسة اللبنانية للإرسال للطفل الحامل سلاحه لتزيد من رمزية «الحضارية» و«السلمية»). وما يثير شك بعض فاعليات المدينة بالتحضير المسبق لـ«يوم الغضب الطارئ» هو ساحة الاعتصام التي جهزت مسبقاً هي الأخرى بخيمة نصبها الشيخ عمر بكري فستق قبل نحو أسبوع بحجة المطالبة بتسوية أوضاع الإسلاميين الموقوفين الذين لم يحاكموا بعد. هكذا، قبل مغيب الشمس، كان يمكن أهالي المدينة أن يشاهدوا من نوافذ شققهم تحول مدينتهم إلى ملعب، «نظيف» نسبياً، للمسلحين وبالتالي للمعارضة السورية، بعد فشل مساعي إيجاد مناطق عازلة في مكان آخر.

بعد إحكام المسلحين سيطرتهم على المدينة، مترفّعين عن ملاحقة البعثيين والقوميين والعلويين كما جرت العادة، تناسوا أن توقيف الأمن العام للمولوي هو سبب احتجاجهم «العفوي». بدأوا، يتابع أحد الطرابلسيين، معركتهم الحقيقية، مع الجيش، محاولين ضرب آخر من يقف أمام استيلائهم الكامل على المدينة. هكذا بدأت المناوشات التي، رغم تنقلها بين عدة أحياء، حافظت على هويتها: جيش ضد مسلحين يوصفون في طرابلس بالسلفيين (مع العلم بأن بين السلفيين من يدين بشدة ممارسات كهذه). يذكر هنا أن لا علاقة للجيش بالموقوفين الإسلاميين الذين يشكل حقهم بالمحاكمة العادلة جزءاً أساسياً في تعبئة الرأي العام. فالمحكمة العسكرية بتّت غالبية ملفاتها العائدة لهؤلاء. أما المشكلة فتكاد تقتصر على ملفات من أوقفوا في عهدي فؤاد السنيورة وسعد الحريري، الموجودة لدى قاضي التحقيق العدلي، والتي يفترض بالقاضي سعيد ميرزا أن يسرّع آلية بتّها.

وبالتالي، فإن المبررات الجدية التي تجمعت لدى بعض المتابعين الطرابلسيين لما شهدته المدينة تقتصر على نقطتين فقط: الأولى، ترى أن قتال الإسلاميين للجيش هو «نوع من الجهاد». والثانية، تعتبر أن المناوئين للنظام السوري انطلاقاً من لبنان أرادوا إيصال رسالة واضحة لمختلف المعنيين بعد «لطف الله 2» تُفهِمهم أن الأمر في مدينة طرابلس لهم هم، وليس لأي طرف آخر.

يذكر هنا أنه في وقت كان فيه نفير التعبئة يشتد لقتال «الكفار والمرتدين»، وتعلو عبر مكبرات الصوت السيّارة الدعوات إلى أبناء الطائفة السنية من العسكريين ليخلعوا عنهم بزات «الجيش الصليبيّ»، كان بعض مسؤولي تيار المستقبل يقرّون بعجزهم عن التأثير بأي شكل من الأشكال اليوم في التسونامي الإسلامي الذي يجتاح المدينة، مع تأكيد أحد ناشطي المستقبل في دردشة خاصة أن «أصغر شيخ سلفي» موصول جدياً بـ«أخ كريم» في الكويت أو قطر أو السعودية، يملك في جيبه اليوم مالاً أكثر مما في خزنة تيار الحريري بكثير، فضلاً عن أن «أصغر شيخ سلفي» هو من دون شك أكثر ثقافة وطلاقة في الكلام وإتقاناً لتقنيات الحوار وقدرة على الإقناع، من أكبر مفكر في تيار المستقبل. لم تعد طرابلس هي طرابلس منذ أكثر من ستة أشهر. الناس هنا يستيقظون في درعا، يفطرون في بابا عمرو، يصلّون الظهر في حماه، يتغدّون في دمشق، يصلّون المغرب في جبل الزاوية وينامون على موسيقى «وصال» وغيرها من قنوات التعبئة المذهبية.

طال السبت. لم يفض الاجتماع الذي عقد عند المفتي مالك الشعار إلى نتيجة. انتقل ضيوف الشعار إلى منزل النائب محمد كبارة، فاتفق على ذهاب الأخير والنائبين خالد ضاهر ومعين المرعبي إلى ساحة النور ليطلبوا فض الاعتصام. لكن فور وصولهم، اكتشفوا عجزهم عن طلب أي شيء لأن القضية أكبر منهم بكثير، فباركوا المعتصمين وخلع أحد النواب حذاءه لينام في خيمة الاعتصام.

بنتيجة الاتصالات، عادت الأمور إلى حيث الرئيس نجيب ميقاتي يريد، لا كرامي. لن يداهم الجيش منازل من أطلقوا النار عليه، واستخباراته تعرفهم واحداً واحداً. سيبقى السلاح بين الأيادي حراً وطليقاً. لا يريد ميقاتي صداماً يخسّره مجموعة تؤثر اليوم في الرأي العام، ولو كان الحسم يربّحه طرابلسيين كثيرين ملّوا تعطيل التوتر لاقتصاد مدينتهم واستقرارها.

الاثنين ١٤ أيار ٢٠١٢

الأكثر قراءة