لن يكون هناك بعد الآن أطفالٌ متسوّلون. القرار اتُّخذ والتساهل ممنوع. لقد عقدت القوى الأمنية العزم لوضع حدّ للظاهرة المجرَّمة قانوناً. تلقت أمر العمليات من وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور، لكن نياتها اصطدمت بحائط الواقع. لا يوجد متّسعٌ من المكان لـ«المجرمين الصغار» في دور رعاية الأطفال!
نانسي رزوق
اعتاد اللبنانيون المشهد. زحمة سير أو إشارة ضوئية حمراء. إذاً، هناك متسوّلون صغار. يرصد هؤلاء تقاطعات الطرق. وما إن يتوقف السير حتى يتحلّق العشرات منهم حول السيارات. يعرضون على سائقيها مسح الزجاج الذي تلتصق وجوههم به. يُتمتمون بعبارات غير مفهومة، لكنهم يبدون كمن حفظها عن ظهر قلب. يرافقون السيارة مع دوران عجلاتها. يُسرعون الخطى كلما ازدادت سرعتها.
وهكذا يظلون يتبعونها حتى تتوارى.
لا يمتهن هؤلاء الصغار التسوّل فقط؛ إذ يبيع بعضهم العلكة والسجائر، الورود وأوراق اليانصيب واللوتو، ويتاجرون بماركات العطور المقلّدة. يتسوّلون حيناً، ويسرقون أحياناً. تصادف بعضهم يبكي، لكن معظمهم يركض هرباً ما إن يلمح عدسة كاميرا أو رجل أمن يقترب من بعيد.
ينشئ أطفال الشوارع ما يشبه الصداقة مع الأرصفة؛ فعلى تقاطع «الشالوحي»، على سبيل المثال، تجلس زينب، ابنة الأحد عشر ربيعاً. تعمل في بيع حلوى «السمسمية». تتسوّل وتبيع السكاكر منذ عدة أعوام. ترافق أخواتها الأربعة في «عملهم» الذي يبدأ من الثامنة صباحاً حتى مغيب الشمس، وتجني يومياً مبلغاً يراوح بين 50 ألفاً و150 ألف ليرة. لا تعلم زينب لماذا لم تقصد المدرسة يوماً. تسمع عنها أحياناً، لكنها تقول إن «العمل أهم». على الجانب المقابل من الطريق، يقف شاب عند نافذة سيارة بتهذيب. يحمل بيده حافظات الطعام وقطع قماش. يدّعي أنه طالب في الجامعة اللبنانية، وأنه ناشط في «حملة الوقوف في وجه البائع السوري». لا اسم للشركة التي يعمل لحسابها طبعاً، وكذلك بالنسبة إلى مصدر بضاعته التي يعرض عليك شراءها بحسم قد يصل إلى 90%.
الشاب والصبية نموذجان لكثيرين يجوبون الشوارع متنقلين من سيارة إلى أخرى. يسعى بعضهم إلى الكسب تحصيلاً لقوت أسرته. وربما، لكسب رضى «الوالد» الذي يراقب عن كثب. القاسم المشترك بينهم واحد: «جميعهم مجبرون على التسول».
في المقلب الآخر، يقف رجل الأمن يترصّد؛ فقد أصدر المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء أشرف ريفي، بناءً على توجيهات وزير الداخلية والبلديات العميد مروان شربل، أمراً يقضي بمكافحة تسوّل القاصرين والباعة المتجولين. طلب ريفي من مفارز الاستقصاء التشدّد في التوقيف وإيداعهم المؤسسات الاجتماعية والجمعيات الأهلية المعنية. لكن المشكلة تكمن في صعوبة الانتقال من الجانب النظري إلى التطبيقي. وفي هذا السياق، يكشف مصدر أمني عقبة تحول دون إتمام رجل الأمن لمهمته. يؤكد المصدر أن «عناصر قوى الأمن بدأت بإلقاء القبض على المتسوّلين، لكن لا أمكنة تتسع لهؤلاء أو حتى لجزء قليل منهم». ويروي أن «عناصر أمن أوقفوا سبعة متسولين صغاراً اضطروا إلى أن يحتجزوهم مع البالغين، علماً بأن القانون يحظر ذلك». المسألة لم تنته عند هذا الحد، يكمل قائلاً: «اضطررت إلى إطلاق سراح خمسة منهم بعدما أخبرتني الموظفة في وزارة الشؤون بأن لا أمكنة تتسع لهم».
موقف المصدر الأمني يتقاطع مع رؤية ضابط آخر عمل على مكافحة التسوّل أيضاً. يؤكد الأخير أن «الحل سلّة متكاملة لا يُمكن تجزئته؛ فمسؤولية قوى الأمن تقتصر على سحب الأطفال من الشوارع، لتبدأ مسؤولية وزارة الشؤوون الاجتماعية». ويحمّل الضابط وزارتي الداخلية والشؤون الاجتماعية المسؤولية لإصدار «قرار عشوائي بجمع الأولاد من الشارع من دون دراسة جدية لما قد يترتب عن هذا القرار». وفي سياق تأكيد ما سبق، يتحدث محامون وقضاة عن عقبة تواجههم في قضايا تسول الأطفال بالتحديد تتمثّل بعدم وجود «دار التشغيل» التي نص عليها القانون ليستفيد منها الفقراء من المتشرّدين والمتسولين بعد محاكمتهم.
وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور، نفى في اتصال مع «الأخبار»، أن يكون لكلام ضابط قوى الأمن أي صلة بالواقع. وأشار إلى أنّ ظاهرة التسوّل «انخفضت بنحو ملحوظ وتراجعت معها نسبة أطفال الشوارع»، لافتاً إلى أن الجمعيات «تقوم بواجبها، رغم أن بعضها غير مجهز لاحتواء هذه الأعداد الهائلة من الأطفال». أبو فاعور تطرّق إلى مشكلة أخرى تبرز لدى التعامل مع أطفال مجهولي الهوية لا يجدون من يسأل عنهم، مشدّداً على أن العمل الأمني والاستقصائي يمثّلان بداية حل المشكلة. ويشير إلى أن «الحل الشافي يكون بمعاقبة البالغين وتجريم المافيا التي تقف وراء هذه الظاهرة»؛ إذ تنص المادتان617 و618 ق.ع.ل. على عقوبة السجن بما لا يقل عن 7 سنوات لكل من دفع قاصراً إلى التسول.
خلاصة أبو فاعور تنحو إلى القول بأن الدولة غير قادرة على استيعاب جميع الأطفال، ولا سيما مع تزايد أعداد النازحين السوريين، مناشداً كلّ مواطن «عدم إعطاء المتسولين المال»، كاشفاً عن «حملة إعلانية ستطلقها الوزارة قريباً لتوعية الأفراد على أن مساعداتهم لهؤلاء الأطفال تصبّ في مصلحة المشغّل والعصابات المنظمة، لا في مصلحة الطفل».
من جهته، يؤكد الأمين العام للمجلس الأعلى للطفولة إيلي مخايل لـ«الأخبار» أن «مكافحة ظاهرة أطفال الشوارع تندرج ضمن سياسة اجتماعية متكاملة»، ويذكر بأن حقوق الطفل لا تقبل الخيار المؤسساتي لأن «إيداع الطفل في مؤسسة وفصله عن أهله هو خيار خاطئ إلا في حالات استثنائية». ويكشف كذلك أنه «رغم وجود قرابة11 مؤسسة تعمل مع الشؤون الاجتماعية، إلا أنها غالباً ما تعاني أزمات مادية، نظراً إلى انخفاض المخصّصات المرصودة لها»، مشيراً إلى أن العمل جارٍ على مشروع كامل لعلاج المشكلة، «ونحن في صدد إرسال خطة وقائية للوزارة ستُعلَن قريباً». وتطمح الخطة إلى وضع المشكلة ضمن الأطر القانونية، مع الارتكاز على نقاط محدّدة كالتدريب المهني وإلزامية التعليم والتأهيل، وتتطرّق كذلك إلى إعادة ضبط الحدود.
الاثنين ١٤ أيار ٢٠١٢