رصاصة في قلب «الجـديد»

أبصرت عدسة علي شعبان صورته للمرة الأولى. أبصره الرفاق شهيداً أغمض الموت عينيه، وبكوا مصوّراً ضُبط متلبّساً بكاميرا فقُتل. يوم امس، أغرق الحزن الدامي قناة الجديد

رضوان مرتضى

لم تخترق الرصاصة المشبوهة قلب علي وحده. قلوب الزملاء هنا اختُرقت كذلك. لم تعرف كريستين حبيب كيف تحبس دموعها. حالها كحال زميلتها نوال بري التي اختنقت بعبرتها مراراً. في المساحة الفاصلة بين الزميلتين، جلست نانسي السبع تمسح بيديها دموعاً أبت البقاء في مقلتيها. وفي المصعد، تُتمتم سمر أبو خليل بكلمات حزنٍ واستنكار، لكن هيهات أن يُغيّر ذلك في القدر شيئاً. الفقيد لن يعود. غاب علي فغاب الكلام. هنا وجوهٌ صامتة تتكلم. عبرات مخنوقة في عيون ذابلة تجهد لإنهاء استعدادات انطلاق نشرة الثامنة المسائية.

تبدأ النشرة فيتسمّر مراسلو القناة أمام الشاشة. ينهي رامز القاضي اتصالاً من أحد المعزّين ليأخذ مكاناً له إلى جانب كريستين، لا سيما أن الاتصالات المطمئنة كانت قد انهمرت من كل حدبٍ وصوب، على كل من يعمل في قناة الجديد.

تنطلق سمر بمقدمة النشرة، لكنّ صوتها يختنق بغصة سريعة. يغرق القاضي في البكاء. لم يستطع رامز أن يحافظ على رباطة جأشه. فقد رحل رفيقه علي. الذنب ليس ذنبه، لكن يستحيل على من عرف علي إلا أن يحزن لفراقه.

غاب ابن التسعة والعشرين ربيعاً قبل أن يعقد قرانه. اشترى بدلة عرسه الذي كان محدّداً بعد خمسة أيام، لكن الموت ارتأى تغيير المخطط. «رحمك الله يا عريس». عبارة كتبتها نانسي السبع. «علي كنت صانع الخبر فبتّ خبراً على كل لسان». عبارةٌ أُخرى أُضيفت. في المكتب المقابل، ينهمك رامي الأمين في إعداد تقريره عن «يوم كان يُفترض أن يكون عادياً، لولا أن رحل علي». تغرورق عيناه بالدموع. ترتجف الحدقتان فيُحوّل نظره باتجاه آخر. على بعد خطوة منه، يجلس رياض قبيسي. يرقب الأخبار بحذر. أنور ياسين كان حاضراً أيضاً. كذلك كانت سلمى الحاج التي حضرت ضيفةً بوجهٍ محزون. باسل العريضي لم يكن أفضل حالاً من غيره، كان متسربلاً بالحزن. جارى رفاقه المحزونين، وبجهدٍ كبت الدمعة في عينيه، ربما، لم يستطع ذلك كثيراً.

بين دقيقة وأخرى، يتردد رجع صدى صوت حسين خريس يطلب المسامحة من عائلة علي لأنه لم يستطع أن يفعل له شيئاً. يتكرر الشريط المصوّر، وفي كل مرة، يلتفت الحاضرون إلى وجه حسين الباكي. كأن لسان حالهم يقول: لا تجلد نفسك يا حسين. لم نستطع نحن أيضاً أن نفعل شيئاً لإنقاذه. رصاصة الموت كانت أسرع.

يتابع الحاضرون التقارير التي تعاقب زملاء لهم على إعدادها. تبتسم وجوههم لرؤية علي حيّاً في الصور، لكنها لا تلبث أن تستعيد حزنها بعد تذكر فقدانه. الدموع تنهمر لهول الفراق.

الحزن لم يقتصر على الطبقة السابعة في قناة الجديد (التحرير). الفاجعة ألقت بظلالها على المبنى بأكمله. الطبقة الأولى، مقرّ قسم المصوّرين، كانت الأولى بالعزاء. رحل رفيق الدرب. هنا الدموع في كل مكان. يختبئ بعضها في وجوه الرفاق، فيما لا تجد العيون الأخرى حرجاً في إظهار هذا البوح. العيون الباكية كثيرة، لكن الصمت يبقى سيد الموقف. الكل مفجوع هنا، لقد غاب علي. يعزّي الزملاء هنا بعضهم بعضاً بالنظرات، فيما يلوذ آخرون بسجائر الدخان لإفراغ بعض غضبهم.

بعيداً عن الطبقتين الأولى والسابعة، توافد المعزّون برحيل الفقيد إلى القناة. المحبّون كانوا كُثراً. في الخارج، رُكنت سيارات بثّ المؤسسات الإعلامية المحلية. القوى الأمنية حضرت أيضاً. عند مدخل الجديد، وقف موظفون. حضروا لكن عقولهم كانت مع علي. شاشة الجديد نُكّست بالموت. فقابل شعارها شارة حزن سوداء، فيما تربعت في الأسفل صورة الشهيد المصوّر. للأسف، بات علي خبراً عاجلاً.

أمس رحل علي شعبان. قُتل العريس مُخلّفاً في القلب غصّة. ترك خلفه أمّاً ثكلى بوحيدٍ كانت تعدّ الأيام لتفرح بزواجه، فشاءت الأقدار أن تستقبله شهيداً ملفوفاً بكفن. علي راح. قتلوه على حين غفلة. فعلاً يا رامي... لم يكن أبداً يوماً عادياً.

الثلاثاء ١٠ نيسان ٢٠١٢

الأكثر قراءة