فهناك عجز عن الإصلاح لدى الزعامات الطائفية المكونة لهذا النظام، ثبت أنّه لا يمكن تجاوزه بسبب الطبيعة الأساسية لتلك الزعامات الطائفية وطبيعة مصالحها. فاللافت في المعركة الشرسة التي نشبت بوجه شربل نحاس، هو وقوف جزء رئيسي (أو الجزء الرئيسي) من التيار العوني، ممن يمثلون المصارف والصناعيين والتجار، ضد مشروع نحاس من أساسه. وقد ثبت أنّ ثقل فادي عبود ونعمة فرام وتجار الأشرفية عند ميشال عون، أهم بما لا يقاس، من ثقل شربل نحاس ومشروعه. ذلك أنّ هؤلاء، ومن يمثلونهم، هم الدعائم الأساسية لزعامة عون المسيحية، ولا يمكن لعون بالتالي إلا أن يمثل مصالحها. أما شربل نحاس فلا يمثل سوى طاقة فكرية، تبيّن أنّ عون يمكن أن يوزره ويتبنى مشروعه الإصلاحي، ما دام لم يتسبب هذا المشروع في أي عرقلة للمشروع الأساسي لعون، وهو بناء الزعامة. لكن يجب الاعتراف بأنّ الآمال التي بنيت على تمكن شربل نحاس من إدخال مشروعه الإصلاحي في صلب مشروع زعامة عون، وجعله جزءاً لا يتجزأ من مشروع هذه الزعامة، لم تكن آمالاً واقعية على الإطلاق. واللافت أيضاً هو العداء العابر للقوى الطائفية والطبقة الحاكمة الذي قوبل به شربل نحاس ومشروعه. فالاستنتاج الوحيد الممكن إذاً هو استحالة أي إمكانية لاختصار الطريق نحو الإصلاح عبر التعاون مع زعامة طائفية، بغض النظر عن مقدار استعمال هذه الزعامة لخطاب إصلاحي. والمؤسف في هذا الاستنتاج هو ما يؤدي إليه من انعدام للأمل بأي إصلاح، أو بداية إصلاح، لهذا النظام الطائفي المقيت في المدى المنظور، بسبب واقع ميزان القوى بين الطوائف وملوكها من جهة، وبين القوى الإصلاحية في البلد من جهة أخرى. وقد كانت العنجهية التي تعامل بها ميشال عون مع شربل نحاس خلال اليومين الأخيرين اللذين سبقا استقالته خير تعبير عن ميزان القوى المذكور. فقد اعتبر «الجنرال» أنّ نحاس جندي من جنوده، فوجّه له الأمر بالتوقيع همساً أثناء حفلة عيد ميلاده، من دون أن يرى أي حاجة لنقاش الموضوع بعدما اتخذ هو القرار، وانتهت المسألة. ثم أُمر نحاس بأن «ينفذ ثم يعترض»، إلى أن وصل الأمر إلى حد منعه من مقابلة «الجنرال»، بعدما تمسك الرجل بقناعاته وموقفه. إنّ انعدام الثقل الشعبي الحقيقي للقوى الإصلاحية في البلد، للأسف الشديد، مكّن عون من التعامل مع نحاس بتلك الفوقية وقلّة الاحترام. لكن كيف سيفسر عون لجمهوره تخليه عن «الإصلاح والتغيير» وقفزه، بسرعة، يمكن أن يحسده عليها وليد جنبلاط بذاته، نحو «المشاركة و التغيير» بعد غداء عين التينة؟ مع التنويه طبعاً إلى أنّ التغيير الوحيد الذي نتج من هذا الغداء هو تغيير موقف عون من مشروع نحاس الإصلاحي، ومحاولة إجباره نفسه على تغيير موقفه من هذا المشروع. لكن على ميشال عون أن يعي أنّ بيعه لشربل نحاس في صفقة «الشراكة» لن يضمن له «حصته» التي وُعد بها خلال غداء عين التينة. ذلك أنّ هناك مشكلة بنيوية تعاني منها التجارة السياسية بين ملوك الطوائف في لبنان. والمشكلة هي أنّ هذه التجارة تعاني من ارتفاع مستوى «المخاطر» بشكل دائم. فخطر الذهاب ضحية للبيع والشراء لا يقتصر على أمثال شربل نحاس فقط، بل يتعداه ليشمل الطوائف وملوكها في سوق السياسة المتقلبة في لبنان. ومن تمكن من بيع نحاس اليوم بسعر بدا له مربحاً، لن يكون بمنأى عن التعرض للبيع والشراء في المستقبل، خصوصاً أنّ صفقة «الشراكة» قد عقدت مع نبيه بري، «استاذ» المساومات السياسية وأكثر دهاقنة السياسة في البلد دهاءً. ونتمنى لعون ألّا يعود من مشواره مع شريكه الجديد بخفّي حنين. تبقى كلمة أخيرة لشربل نحاس الذي برهن بالدليل القاطع أنّ السياسة، حتى في لبنان، يمكن أن تُمارس بمعناها النبيل حتى النهاية. والكلمة هي أنّه خيراً فعل باستقالته التي أقدم عليها في اللحظة المناسبة تماماً. فهو قد حافظ على احترامه لنفسه ولمبادئه، وجنّب نفسه التحول إلى زياد بارود آخر يتربع على كرسي وزارة، من دون أن يكون له أي تأثير على ما يجري حوله. ويكفي شربل نحاس أنّه سوف يُذكر مع من يُذكرون من شخصيات إصلاحية فذّة مرت على لبنان، من أمثال إميل بيطار والياس سابا، لم تتمكن من اختراق السد المنيع للنظام الطائفي المقيت القابض على البلد، ولكن يكفيها شرف المحاولة.
الاثنين ٥ آذار ٢٠١٢