نصري الصايغ
كان إقليدس، مؤسس علم الهندسة، يرسم على لوح غباري خطوطاً مستقيمة ومنكسرة ودائرية. مر به الملك وسأله: «لمَ كل هذه الخطوط يا إقليدس، خط واحد يكفي؟» أجابه إقليدس: «ليس في الهندسة خط ملكي.. وأقرب خط بين نقطتين، هو الخط المستقيم».
وسار شربل نحاس على خطى إقليدس. لا خطوط ملكية. لا خطوط وفق أهواء السلطة. الخط المستقيم دليله في بلوغ الصح.
ليت شربل نحاس قرأ مسرحية برتولت بريشت، «غاليليو غاليلي»، لعله كان قد استفاد من فعل الندامة الذي تلاه غاليلي أمام محفل الكرادلة، في زمن كانت السلطة فيه مدعومة بمحاكم التفتيش.
في المسرحية، مشهد أول، يبيع فيه التلميذ اندريا معطفه، ويشتري به لبنا لأستاذه غاليلي كي يستمر في بحثه الدؤوب عن الحقيقة. ويكتشف غاليلي الحقيقة وتنتشر. تهتز أركان الإجماع الكنسي. يهتز النظام. يعتقل غاليلي.
المشهد الثاني: يصلي تلامذة غاليلي كي يصمد أستاذهم، ولا ينهار تحت التعذيب. لكن غاليلي، عندما رأى نهايته قريبة، قرر أن يخدع الجميع، ويعترف بأن الأرض ثابتة لا تدور.
المشهد الثالث: اندريا يزور غاليلي في سجنه، ويسأل أستاذه باكيا: «غاليليو، غاليليو، لماذا أنكرت الحقيقة؟» ويجيبه غاليلي بصوت ساخر: «هل تعرف يا أندريا، لقد كان إقليدس على خطأ. فأقرب خط بين نقطتين، هو الخط المتعرج؟».
لكن شربل نحاس، قلّد إقليدس، ولم يقبل بفتوى غاليلي. فضل خط القانون المستقيم، على التسوية المتعرجة، التي أبدعتها العبقرية اللبنانية، الموازية لعبقرية السلطات الدينية في القرون الوسطى. عبقرية تقول: التسوية أولا، والقانون أخيراً. غاليلي دائما، إقليدس، ولا مرة.
وسقط شربل نحاس، كما سقط آخرون، توهموا أنهم قادرون على طواحين النظام الفولاذية. خروا صرعى، الواحد تلو الآخر. والغريب ان نحاس الذي صمد في وجه خصومه ومن خاصمهم، وفي وجه أعدائه ومن عاداهم، سقط بيد أصدقائه وحلفائه وتياره... ولم يشفق عليه أحد. هذه المرة كان بروتوس مرتبكاً، ولكنه كان حاسماً، إذ، «لا صوت يعلو فوق صوت الملك»، المتوّج جنرالاً، وله وحده الحق في ان يسير وفق الخط المستقيم إذا شاء، ووفق الخط المتعرج إذا اقتضى ذلك.
ولقد ارتاح الأرباب اللبنانيون جميعاً من نحاس. كان كابوسهم المندس في كل السياسات: له في كل مقام مقال خاص وموقف حاسم. في المالية، له حسابات لا تخطئ، في الاقتصاد نظريات وآليات يدافع عنها، في الطاقة برامج تكهرب الجميع، (بلا ضوء طبعاً) وله في الصحة صورة رنينية لعللِ التلاعب والدواء والاستشفاء، وله في الانتاج نظريات مكتوبة غير قابلة للقراءة، في مجالس السلطة، وله في مسار الدولة خط مستقيم يقوم على ركيزتين اقليديتين: الدستور والقوانين.
توهم نحاس، انه يستطيع، عبر تمسكه بالقوانين، إلزام الآخرين بتبني المرجعية الدستورية في إقرار السياسات العامة والخاصة. ولقد كان ضحية أوهامه. لبنان غير قابل للصرف، قانونيا.
ولهذا، ارتاح منه الجميع، الجميع بلا استثناء، من معه قبل من هم ضده. سعد الحريري لم يعد محتاجاً إلى تهديده مرة أخرى: «بفرجيك». وليد جنبلاط، يعيّد الأضحى، بعدما ضحّى الجنرال بكبشه المفضل. حزب الله انصرف إلى تأدية صلاة الشكر، لأنه أخرجه من جحيم الاختيار، بين الحكومة وبقائها وشربل وانسحابه. ونجيب ميقاتي لم يبخل، كعادته، إذ أنفق وقتاً للسخرية الصامتة، ووقتاً آخر لأخذ العبرة، وتهديد من لا يعتبر. فهو صاحب الشعار الجديد: «الأمر لي»، وإلا فإن السنّة خلفي ومعي، ولو كانوا ضده ومع خصمه الحريري. أما رئيس الجمهورية، فحدّث ولا حرج، فهو يتصرف كأنه الباب العالي. فيما حاشية الجنرال تنفست الصعداء، وعاد كل واحد منهم إلى أصوله الطبقية وثقافته الطائفية وحصته المرتقبة. وأكبر الشامتين، الاتحاد العمالي العام، صاحب الحق الحصري في عقد التسويات.
ماذا فعلت يا شربل حتى صاروا كلهم ملكيين أكثر من الملك؟ أنت تتمسك بالنص، وهم يتمسكون بالميثاق. النص دستور وقوانين، والميثاق تسويات طوائفية. النص مجهز ليكون في خدمة التسوية.
هذا بلد يسير عكس القوانين. هذه دولة ضد دستورها. هذه سلطة ضد الدولة والدستور والقوانين والناس. والسلطات التي سبقتها، لم تشذّ عن القاعدة. ولهذا، يرتع لبنان بفساده وفسقه ونفاقه. ولهذا تعتبر كل تسوية صفقة. وإذا أجريت عملية حسابية لمعرفة مردود استقالة شربل نحاس، فإن الصفقة كانت مربحة جداً. لم يخرج أحد خاسراً من الطبقة السياسة.
لم يحسب نحاس الحساب السياسي الدقيق وفق منهج غاليلي. اللحظة ليست مؤاتية لإطاحة الحكومة. فدونها معادلة إقليمية تتزعزع. النأي بالنفس، وسيلة الخلاص اللبناني من ارتدادات العنف السوري، الذي يتقن فريق 14 آذار توظيفه ولو أطاح الاستقرار اللبناني الهش. والنأي حياد معلن، وانعطاف مبطن.
بين النأي بالنفس، والنأي عن نحاس، اختار فريقه بقاء الحكومة. وكان قد سبق ذلك، أن أقدم حزب الله على النأي بنفسه عن تمويل المحكمة، ثم نأى بنفسه أكثر مع تجديد البروتوكول. أما نحاس، فقد حشر نفسه بشعار واحد: لا أوقع... فَوَقَع وحيداً، وعادت العجلة إلى الدوران، وفق سياسة الخطوط المتعرجة والسياسات المتقاطعة.
مراراً وتكراراً، قدّمت نصائح لأهل الثقافة والخبرة والالتزام، بعد الاقتراب من هذه السلطة في هذا النظام. لكن زياد بارود فعلها... برغم تهذيبه وتورياته وتأففه ومداراته لمن حوله ولمن فوقه، أخرج من السلطة بمكافأة النسيان. قبله كثيرون. أخرجوا ولم يبق لهم أثر... الحي الباقي في لبنان، هم هؤلاء الستة الكبار. لا يحولون ولا يزولون... ومع كل مرحلة أو عهد أو سلطة يتجددون، بتأييد حاسم من أتباعهم الميامين.
ومع ذلك، يختلف شربل نحاس عمن سبقه. لا يتورع عن نقد. يعاند بحق، يتصلّب بمنطق. يحسب بدقة. يتابع ولا يكل. ومن ثم، يتصرف وفق قناعته ويسلك وفق علمية مفحمة ومبادئ عريقة وقيم لا غبار عليها.
انه شربل الرهيب...
غداً، يوم آخر. غدا، حكومة أخرى، لأنها من دون شربل نحاس. دخلت قفص الطاعة الطوائفي. حيث تبيض السلطة بيضا ذهبياً يوزع محاصصة على ديوك المزرعة اللبنانية. لقد فقدت الحكومة ثقة كبيرة. والتيار الذي اختاره ثم تخلى عنه، سيفقد أكثر. علماً ان الثقة المتبادلة بين أركان الحكومة ستصبح أكثر متانة... خصوصاً أنهم لا يسألون عن ثقة الناس الطيبين.
ماذا بعد؟
لا شيء أبداً. خسر شربل نحاس وفاز. ولو أنه نجح، لكان فشل فشلاً ذريعاً. خسارته شهادة عليهم وشهادة له. ظل وفياً لذاته وقيمه وانتمائه. لذلك نقول له: شكراً، مع عظيم يأسنا من هذا النظام ومن طبقته السياسية الرثة.
انه يأس بنّاء. يأس يدعو إلى ممارسة القطيعة مع نظام غير جدير بأن يخدم، إلا من أشباهه...