فداء عيتاني
في عام 1971، أُحرج الوزير إميل البيطار حتى أُخرج من الحكومة مستقيلاً، فرسم بيار صادق في الصفحة الأخيرة من «النهار» كاريكاتوره، معلّقاً «إميل طلاع من الصف». تلك الحكومة التي تألّفت عام 1970، برئاسة صائب سلام، كانت تهدف الى «بعض التعديلات حتى لا تتم أية تعديلات» في البلاد، وتحاول استيعاب الموجة الهائلة من المدّ، الذي بدأ يطلّ برأسه على لبنان، وأعدّت لانتخابات عام 1972، وانتهت الأمور بعد ثلاثة أعوام بالوصول الى الانفجار والحرب الأهلية.
إميل البيطار حينها كان، وبصفته وزيراً للصحة، قد صدق أن المطلوب إجراء تعديلات، فراح المسكين يعمل على ملفات الاستشفاء والدواء، وحاول تحديد الأرباح والاستيراد في الأدوية، وكبح الهوامش، فانتهى به الأمر مستقيلاً، بعدما اصطدم بالممسكين الفعليين برأس النظام.
اليوم، وصلت الحكومة الى النتيجة نفسها، لكن الحكومة الحالية، والنادي الحاكم، في وضع أكثر راحة بما لا يقاس من حكومة عام 1970، فلا فئات عمالية منظمة، ولا أحزاب، ولا إميل البيطار من الحزب الديموقراطي، ولا يسار يخرج في تظاهرات اعتراضية، ولا من يحزنون، لكن هناك ما يزعج الصورة. فها هو شربل نحاس لا يخرج من الصف، بل يقف فيه ويشاغب كل الوقت على صفاء الحكم والسلطة، ويرفض التوقيع.
ربما لم تنطل الحيلة على رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الذي يكرر أنه لم يقتنع بأسباب الأزمة الحكومية ليتدخل في مفاوضات تعيد الحكومة الى سكة الانعقاد، فراح يتأمل من بعيد، وهو ربما الوحيد الذي لن يلعب لعبة التذاكي الدائرة اليوم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وإن كان لا يسرّ بري وجود نحاس في صف الحكومة ونادي السلطة، لكنه لن يجاري الرئيسين في لعبة الغميضة مع النظام السوري، التي يفترض أن يبررها دائماً وجود نحاس في الحكومة.
فمن أجل الهروب من الموقف في سوريا وحولها، يغمض رئيس الجمهورية عينيه، حتى عن مصادرة صلاحياته من قبل رئيس الحكومة، الذي فضّ المجلس وأعلن إغلاق قاعة الاجتماعات ووضع المفتاح في جيبه، بحضور وترؤس رئيس الجمهورية للجلسة الوزارية الأخيرة. رئيس الحكومة فضل تعليق البلاد وإغلاق الحكومة الى حين بسبب التصليحات، وإغماض عينيه عن مطالبات سوريا بدور جدي للبنان في الداخل، عبر ضبط حدوده، وفي الخارج عبر موقف حاسم في الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي، ورئيس الحكومة جاهز دائماً ليقول إن «الحق على شربل» الذي لولا مشاغباته ورفضه مخالفة القانون لانتظمت جلسات مجلس الوزراء، واستكمل نأي لبنان بنفسه عن الأزمات بموقف ملتبس آخر على الحدود وفي المحافل العربية والدولية. وبكلمة أخرى، فور إحراج لاعبي الغميضة، سيفتحون أعينهم ويقولون «شفتك شربل شفتك، طلاع من الصف».
لم ينس أحد ربما أن الأزمة الحكومية انفجرت على خلفية التعيينات الإدارية، لا على خلفية عدم توقيع شربل نحاس على مرسوم بدل النقل، الذي يعدّ بكل المقاييس مخالفة قانونية صريحة، وأن نحاس لم يعترض على التعيينات، بل اعترض عليها ميشال عون عبر جبران باسيل، وأن المغادر الأول لقاعة الاجتماعات كان باسيل، وأن المشكلة أن رئيس البلاد (الحكَم والوسط وصاحب التعهد قبل انتخابه غير الدستوري بأن يكون على مسافة واحدة من الجميع وألا يشكل كتلة سياسية لمصلحته خلال فترة حكمه) كان يسعى الى حصة كاملة في التعيينات الإدارية. وبالتالي، فإن شربل نحاس لم يكن له ناقة ولا جمل عملياً في قرار إغلاق مجلس الوزراء وإرسال الوزراء الى مكاتبهم الى حين. ولكن صار الأمر مثل الحظ السيئ الذي يصيب شربل، إذ إن كل رئيس حكومة يشارك فيها يقف في جلسة عامة ويقول له «ليك يا شربل يا نحاس». سعد الحريري قالها، وأضاف «الله لا يخلّيني إذا بخلّيك»، وطبعاً لم تدع إرادة الله سعد في الحكومة طويلاً من بعدها، وها هو نجيب ميقاتي يكررها، مضيفاً «لست أنت من تعلّق الجلسات، بل أنا من سيعلّقها»، والله يعلم بإرادته بعد هذه العبارة من سيكون رئيس الحكومة.
من بعد حكم غازي كنعان ورستم غزالي للبنان، يكتشف كل من تناوب على النظام في البلاد أن وجود المرشد الروحي السوري للنظام كان ضرورة، وأن البلاد من دون هذا الإرشاد تذهب الى انحرافات خطيرة، حتى إن أناساً مثل شربل نحاس قد يصلون الى الوزارة، وأن الطائف الذي لم يطبق يوماً قد يصبح أمراً واقعاً، وأن مجنوناً ما قد يطالب بتطبيق الطائف والقوانين حتى، متجاوزاً فتاوى كنعان وغزالي.
لحسن الحظ أن في البلاد رئيس جمهورية يمكنه دائماً ضبط الإيقاع بعبارات ذهبية من وزن أن «بإمكان رئيس الحكومة مناقشة الوزراء، لكن لا يحق للوزير مناقشة رئيس الحكومة»، ضارباً عرض الحائط بالطائف وتعديلاته، كما أن من حسن الحظ أن «شربل ما طلع من الصف» حتى يتسنّى للكل تعليق كل المشكلات على وجوده في الحكومة.
الجمعة ١٧ شباط ٢٠١٢