هل يعود ميقاتي من باريس مصطحباً جـورج عبـد اللـه؟

هاني سليمان

يكاد ينهي جورج ابراهيم عبد الله سنته الثامنة والعشرين في السجون الفرنسية، أي ما يعادل على وجه التقريب نصف عمره.

لقد أنهى جورج محكوميته المطعون بصحة أسبابها، منذ ثلاث عشرة سنة، ولا تزال السلطات الفرنسية مصرة على احتجازه لأسباب سياسية.

القانون والدستور الفرنسيان يوجبان إطلاق السجين بعد خمس عشرة سنة من السجن، وقد حصلت توصية من لجنة قضائية فرنسية بإطلاق سراحه، إلا ان الادارة الفرنسية لا تستجيب إلا بشرط وحيد.

هذا الشرط يتمثل بأن يكتب جورج على ورقة صغيرة جملة، أو تعهداً لا تتجاوز كلماته السطر الواحد يقول فيه: «أنا جورج إبراهيم عبد الله أتعهد بالتخلي عن النضال وأنا نادم على ما فعلت».

يريدون من جورج لكي يخرج من وراء القضبان، ان يضع المسدس الأخلاقي في رأسه ويموت، وبعد ذلك يسمحون بدفنه في بلدته الشمالية «القبيات».

يريدون من جورج أن يتنكر لقضيته وأهله، وأن يتخلى عن سحنته السمراء الجميلة وقد داعبها شيب الكِـبَر، ليسمحوا بأن يعود الى بلدته وأهله ووطنه، حيث حينها لا يتعرف عليه أهله وأبناء بلده.

الادارة الفرنسية تريد أن تحاكم تاريخاً لتخلي سبيل شخص واحد.

لقد رفض جورج أن يوقع منذ ثلاث عشرة سنة... ربما لأنه أميٌّ، يجهل التوقيع، في وقت أصبح المتعلمون في بلادنا والمثقفون و«الانتلجنسيا» رأس الحربة الثقافية والفكرية في الحرب الاستعمارية الجديدة على بلادنا، وأصبحوا طلائع متقدمة لقوات الغزو الثقافي، ترشدها على مكامن الخلل والضعف والهوان لدى بعض مثقفينا والمتعلمين، لا بل تحول بعضهم الى مستشار أو «مرشد» لمؤسسات البحث التجسسي - عفواً - «العلمي» التي تنشرها كالفطر في بلدنا هذه الايام.

طيب يا جورج... إذا كنت أمياً لا تعرف التوقيع فلماذا لا تبصم؟ في وقت يَبصم فيه المتعلمون أكثر من الجهال، وفي وقت تجري محاولات لأخذ بصمات عيوننا وأصابعنا، ولأخذ الحمض النووي لأطفالنا وحتى للأجنة.

هذا الفارس العربي، يعلمنا في كل يوم درساً جديداً في الحفاظ على القيم والمبادئ.

فرنسا ذات شعار «المساواة والحرية والإخاء» وذات مبدأ فصل السلطات، هذه الدولة تَخضع السلطة القضائية فيها لرأي السلطة التنفيذية وتوجهاتها. لقد اقترحت السلطة القضائية الإفراج عن جورج عبد الله، فرفضت الادارة، فصمت القضاء صمت القبور.

في معرض محاكمة الثائر العالمي «كارلوس» في باريس في الشهر الفائت، وقف واحد من وكلائه الفرنسيين مخاطباً المحكمة بقوله: «اننا نُجهد أنفسنا بمرافعات قضائية مع علمنا الأكيد أن الحكم سيكون سياسياً»، والتفت هذا المحامي الى القضاة واحداً واحداً قائلاً لهم: «يا عاركم لقد أذللتم العدالة الفرنسية، تلبسون الروبات الحمراء كـ«بابا نويل» ولا تفعلون شيئاً من أجل العدالة. على الأقل «بابا نويل» يقدم الهدايا للأطفال، في حين أنكم تقدمون الأحكام المسمومة للكبار ولأطفالهم».

فرحت كثيراً لكلام ذلك المحامي، وأقمت مقارنة سريعة للعلاقة بين القاضي والمحامي في كل من بلدينا. لكن تلك المقارنة ليست معرض بحث الآن.

خلال الشهرين الماضيين شهدت فرنسا ضجة إعلامية وصل صداها لأروقة القضاء، حيث صرح مدير الاستخبارات الفرنسية «إيف بونيه» الذي أشرف على اعتقال جورج عبد الله، قائلاً: «بصرف النظر عن عدم أحقية سجنه، فإن الاستمرار باحتجاز جورج عبد الله هو إرهاب الدولة وهو إهانة لفرنسا وللقضاء فيها، وإني أعتبر أن جورج عبد الله هو سجين سياسي».

هل انتصر ضمير رجل المخابرات هذا عليه، أو أنه يريد بهذه الحملة أن ينقذ شرف فرنسا من هيمنة اليهودية الصهيونية على قضية جورج عبد الله.

في سنة 2002، انعقد مؤتمر الفرنكوفونية في بيروت، فكتب الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل مقالاً نشرته جريدة «السفير» بعنوان «الفرنكوفونية وأخواتها».

لقد تحدث هيكل في هذه المقالة عن تاريخ نشوء فكرة «الفرنكوفونية» كأداة ثقافية في خدمة المشروع السياسي للدولة الفرنسية خارج الحدود، كما أشار بوضوح الى أن تعيين مسؤول «الفرنكوفونية» في فرنسا أو في الخارج يخضع لموافقة السلطات الأمنية ليستطرد كاتباً: «ًلا بل إن السلطات الأمنية الفرنسية هي التي تعين هؤلاء المسؤولين».

إذا كانت الثقافة بخدمة الأمن في فرنسا، فلماذا لا تكون العدالة مطية للاعتبارات الأمنية، وماذا نقول عن دول العالم الثالث ودول الشخص الواحد؟ أتُرانا نقول إن فرنسا أصبحت دولة من دول العالم الثالث في هذا المضمار؟

تجدر الإشارة الى أنه لم يصدر عن السلطات الفرنسية المعنية أي تعليق أو نفي لما أدلى به الصحافي محمد حسنين هيكل.

منذ أسبوعين التقت الحملة العالمية لإطلاق سراج جورج عبد الله بالرئيس نجيب ميقاتي الذاهب بزيارة رسمية الى فرنسا، فسلمته ملفاً كاملاً بالقضية. اهتم الرئيس ميقاتي واتصل من فوره بوزير الخارجية طالباً منه - كعضو في الوفد - أن تكون قضية جورج بنداً على جدول المباحثات.

نسجل للرئيس نجيب ميقاتي بادرته المسؤولة. ونسجل أيضاً... أنها المرة الأولى التي تهتم فيها الدولة اللبنانية بهذه القضية لواحد من أبنائها ورعاياها، بعد أن نعّمْنا أدراج المسؤولين السابقين والقادة السياسيين والروحيين من كل الطوائف لإثارة هذه القضية الوطنية.

الشيء بالشيء يذكر، فالرئيس الفنزويلي هوغو شافير يحمل قضية مواطنه «كارلوس»، الثائر من أجل فلسطين. فالأولَى أن نحمل جميعاً قضية واحد من أبنائنا، وفارس من فرسان قضيتنا. هذه القضية تُعزُّ من يحملها وتُذِل من يتخلى عنها.

إننا بحكم معرفتنا بالرئيس ميقاتي وبالقدر من المسؤولية الوطنية التي يمتاز بها، ممهورة بدبلوماسيته المعهودة، المتسلحة بالحديث عن حق مهدور والمطالِبة برفع ظلامة إنسانية، نتساءل... هل يعود الرئيس ميقاتي من باريس مصطحباً فارساً من فرسان فلسطين والعروبة، لنستقبلهما بما يليق بكل واحد منهما؟ أو على الأقل حاملاً وعداً بعودة الفارس.

([) عضو «الحملة الدولية لإطلاق سراح جورج ابراهيم عبد الله»

آخر تعديل على Thursday, 16 February 2012 14:37

الأكثر قراءة