عائلـة جـورج عبد اللـه بعـد ثلاثـة عقـود مـن النفـي: هـذه حكايتنـا مـع الحكومـات المتعاقبـة منـذ 28 عامـاً

كلير شكر

بين أزقة مخيم نهر البارد، كان الشاب العشريني يتنقل حين كان يترك بلدته القبيات في عكار، قاصداً العاصمة للالتحاق بدار التعليم التي تخرّج منها في العام 1970. بالنسبة إليه، يعني الفلسطيني، الفقر المعمّم، التشرد، الوطن الضائع، القضية الأولى والأخيرة... كانت فلسطين على مقربة أمتار من مسقط رأسه، لم يذهب إليها وإنما أتته في يومياته.

لم يشذّ جورج ابراهيم عبدلله عن محيطه القريب والبعيد. عائلة «مناضلة» بامتياز. أشقاؤه الستة وشقيقاته الثلاث ينتمون إلى المدرسة القومية، العروبية ذاتها (جميعهم انتسبوا الى حزب العمل الاشتراكي العربي). هو ابن جيل الستينيات، مرحلة رياح التغيير الثوري التي لفحت الأرياف اللبنانية على اختلاف حدودها، من شمالها إلى جنوبها. في تلك الأيام ، كان اجتماع الكوادر اليسارية الثورية في عكار يجمع أكثر من مئة «رفيق» وصديق. خلال سبعينيات القرن الماضي حمل بطاقة الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم اختصر «طريق النضال» لينتسب إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»: قضيته المركزية وقُبلة حراكه.

من أجلها، اختار الخروج من بقعة الـ10452 كلم مربع التي بدأت تتآكلها الصراعات المذهبية والصدامات المسلحة بين «المقاومة» وبعض الأحزاب اللبنانية الأخرى، (جرح خلالها جورج مرة، ومرة أخرى أثناء مواجهة العدوان الإسرائيلي في العام 1978)، فضاقت الساحة اللبنانية بأصحاب الأفكار غير المقيدة بالحدود الجغرافية. الخلافات التي نشبت في صفوف «الشعبية» دفعت جورج إلى إنشاء «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» التي راحت تعمل بدعم من منظمة «فتح»، و«الجبهة الشعبية»، وحتى بعض الدول العربية، بدليل حيازته على أوراق ثبوتية جزائرية لحظة «اعتقاله» في 24 تشرين الأول من العام 1984، في مدينة ليون الفرنسية، قال عنه القضاء الفرنسي أنه vrai faux passeport، أي جواز سفر صادر عن السلطات الرسمية، ولكنه مزور كونه لا يحمل اسم حامله الحقيقي.

دخل جورج عبدلله سجن «لانمزان» ولم يخرج منه بعد. أكثر من 28 عاماً من «الاعتقال» كما تصفه عائلة جورج، حوّلته إلى «شيخ الأسرى» في السجون الفرنسية. «السجين السياسي» الوحيد في بلد الحريات والديموقراطية، بسبب افكاره، وفقط أفكاره.

نُسبت إليه الكثير من العمليات ضدّ أهداف أميركية وإسرائيلية يملك وحده أسرارها: محاولة اغتيال المسؤول الثاني في السفارة الأميركية في فرنسا كريستيان أديسون تشابمان (1981)، اغتيال الملحق العسكري في السفارة الأميركية في فرنسا الكولونيل تشارلز راي (1982)، السكرتير الثاني للسفارة الإسرائيلية في فرنسا ياكوف بارسيمنتوف (1982)، تفخيخ وتفجير سيارة الملحق التجاري في السفارة الأميركية في فرنسا رودريك غرانت (1982)، اغتيال الديبلوماسي الأميركي المدير السابق للقوات الدولية في سيناء ليمون هانت (1984)، محاولة اغتيال القنصل الأميركي العام في ستراسبورغ روبرت أونان هوم (1984).

تهمته الوحيدة كانت جواز السفر، بعدما عجزت الأجهزة الفرنسية المختصة عن تجميع الأدلة التي تدينه في تلك العمليات، فاستندت إلى بعض المعلومات التي قدمتها إليها «القوات اللبنانية»، كما تقول عائلته، للاستدلال إلى طريقه وإلقاء القبض عليه. حكم لأربع سنوات، رافضاً الاستئناف أمام المحاكم الفرنسية لأنه لم يعترف بشرعية تلك المحكمة، وقال يومها إن السلطات الفرنسية تعمل لصالح السلطات الأميركية، وبالتالي لا تتمتع بالاستقلالية، ولا يجوز التعاطي معها.

وفي العام 1987، أعادت السلطات الفرنسية محاكمته بعدما وضعت الأجهزة الأمنية أمام القضاء مسدساً قالت إنها وجدته في احدى الشقق وتعود ملكيته إلى جورج عبدلله، مدعية أن المسدس استعمل في عملية اغتيال ضابط أميركي وآخر إسرائيلي. وأصدرت بحقه حكماً بالسجن المؤبد، لم يعترض عليه أيضاً.

لقضية جورج عبدلله جانب، بقي دوماً في العتمة. عائلته. تلك التي لا تختلف عنه في أسلوب التفكير السياسي. تشاطره آراءه ونضاله. يقول شقيقه جوزيف أن أفراد العائلة لا يزالون حتى اللحظة، تحت مجهر الأجهزة الأمنية اللبنانية، تراقبهم باستمرار، على الرغم من تغيّر الظروف، وقد يتمّ استدعاؤهم في أي لحظة، لألف حجّة وسبب. مثلاً، قام جهاز مكافحة الإرهاب باستدعاء بعض أفراد العائلة بحجة امكان تفجير القمة الفرنكوفونية التي عقدت في لبنان، علماً بأن الاستدعاء حصل بعد أسابيع من انتهاء أعمال القمّة! يقول جوزيف أن الأمن العام اللبناني يحتفظ لكل فرد من أفراد العائلة بـ«فيشة».

الأجهزة الفرنسية لم توفرّ العائلة، كما لم توفر الأصدقاء والمعارف حتى أولئك غير المسيّسين. صور الأشقاء والشقيقات نشرت على أثر الاعتقال في الأماكن العامة لا سيما بعدما اتهمهم الأمن الفرنسي بالوقوف وراء التفجيرات التي شهدتها باريس ما بين العامين 1986 و1987.

يومها وصف الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل جورج ومجموعته وعائلته، بالإرهابيين، متهماً إياهم باغتيال بشير الجميل وابنته، وقد ردت العائلة قولاً بأنه نُسب لها «شرف رفيع لم تبلغه». البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي كان رأساً لكنيسته، أسقط عنهم الهوية اللبنانية والانتماء إلى المارونية.

من هذه الزاوية بالذات، يمكن تقدير كيفية تعاطي السلطات اللبنانية الرسمية مع ملف جورج على أنه «شخص مدان وغير مرغوب به». سليم الحص حاول تحريك الملف يوم كان رئيساً للحكومة إثر زيارة قامت بها العائلة. اتصل الحص بوزير العدل جوزيف شاوول طالباً منه متابعة القضية. بعد أكثر من عشرين يوماً، أبلغ وزير العدل العائلة أن القضية غير قابلة للنقاش مع السلطات الفرنسية.

مع رفيق الحريري، حاولت العائلة حجز موعد على جدول أعمال رئيس الحكومة الراحل، لكنّ عشرات المحاولات لم تفلح في سرقة بعض الدقائق من وقته. وليد جنبلاط حاول ترجمة تضامنه مع القضية، لكنه أبلغ أصحابه أن حليفه «البيروتي» لن يساندهم لأنه لن يقبل بإزعاج الفرنسيين. أما رئيس الجمهورية ميشال سليمان فاكتفى بارسال مستشارة قانونية للقاء اللجنة لإيداعها الملف الذي سبق أن أرسل إلى القصر الجمهوري بالفاكس، وبالبريد...

كثيرة هي القوى التي وقفت وتقف حتى اللحظة إلى جانب جورج. لبنانية وفرنسية. النائب الفرنسي باتريك براوزيك تقدم بسؤالين (2008 و2011) إلى وزارة العدل حول قانونية وضع جورج. «التيار الوطني الحر»، «حزب الله»، الحزب الشيوعي، «حركة الشعب»... كانت لهم بصماتهم. لكنّ قضيته لم تبلغ يوماً مرتبة «قضية رأي عام» لاعتبارات عدة، لعل أبرزها عدم تبني فريق أساسي لهذه القضية، وبقي احتضانها محدوداً في تحركات «لجنة أهل وأصدقاء المعتقل السياسي جورج إبراهيم عبدالله»، وهي عبارة عن لقاءات، ندوات، اعتصامات، دعم إعلامي من جانب «حزب الله»، أو مساندة لبعض التحركات (غطاء معنوي للاعتصام الاحتجاجي أمام مطار بيروت خلال زيارة نيكولا ساركوزي للبنان).

بالأمس القريب استقبل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اللجنة التي رأت أن الاجتماع كان عملياً وجيداً. كلّف رئيس الحكومة خلاله وزير الخارجية منصور إعداد ملف متكامل لعرضه أمام الخارجية الفرنسية خلال الزيارة المرتقبة، مؤكداً عليه ضرورة إثارة القضية. قبله كان للجنة لقاء مع وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي الذي بدا إيجابياً في تعاطيه مع المسألة واعداً بطرحها على طاولة مجلس الوزراء.

أما قصّة «التيار الوطني الحر» مع قضية جورج عبدلله فقديمة. شباب عكار «البرتقاليون» اختاروا إثارة المسألة أمام قيادتهم المركزية منذ سنوات. توصلّت الأخيرة إلى خلاصة مفادها أن قضية جورج عادلة وتستحق المتابعة، وعلى هذا الأساس كلّف النائب سيمون أبي رميا المتابعة الدقيقة. العماد ميشال عون استقبل لجنة الأهل والأصدقاء، واستمع لحيثيات القضية، ووعدهم خيراً. كلّف نائب رئيس الحكومة اللواء عصام أبو جمرا طرح المسألة على طاولة مجلس الوزراء، ولكن الأخير تلكأ وتلكأ... وعلى الرغم من ذلك فإن التواصل مع أبي رميا لم ينقطع، وإنما قاد الأخير أول حراك لبنان رسمي في هذه القضية المزمنة، ووجه سؤالاً نيابياً استيضاحياً.

ماذا عن أوضاع جورج في السجن؟

يتواصل «السجين الملتحي» باستمرار عبر الهاتف مع عائلته وأصدقائه، أكثر من مرة في الأسبوع، يتابع التطورات الدولية وحتى التفاصيل اللبنانية عبر شاشة التلفزيون واللقاءات التي يعقدها مع أصدقاء وصديقات لبنانيين وفرنسيين. يطالع الصحف العالمية. لديه جهاز كمبيوتر لكنه غير موصول بشبكة الانترنت. مدرك لكل المتغيرات التي قلبت العالم رأساً على عقب. شيء وحيد لم يتغيّر. أفكاره ومعتقداته. لا يزال ناشطاً دؤوباً حتى داخل القضبان، ينفّذ اعتصامات تأييد للفلسطينيين والأكراد، يتواصل مع «رفاقه» اليساريين، الفرنسيين، أو غيرهم من خلال شبكة علاقات نسجها من خلف الأسوار.

اتهم جورج بأنه صار «إسلامياً». أما هو فيقول إنه مؤيد لـ«الربيع العربي» ولرياح الديموقراطية لكنه يرفض التدخل الخارجي بشؤون الدول العربية. داعم لأي بندقية تقاتل العدو الإسرائيلي وتساهم في تحرير كامل الاراضي اللبنانية والتراب الفلسطيني. مدرك أن الولايات المتحدة التي اختار محاربتها، صارت أمبراطورية بأذرع ممتدة في كل العالم... كما يؤمن أن مشروعها إلى تقهقر حتمي.

مع دخول رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي بعد غد إلى قصر الإليزيه، يتجدد الأمل في نفوس المدافعين عن جورج، بأن تتعاطى السلطة الرسمية بجدية ومسؤولية للمرة الأولى مع ملف «مواطن» منسيّ منذ ثلاثة عقود، لا بل متروك عن قصد كما يرى أصدقاؤه، «فهو لا يزال في السجن لأن الدولة اللبنانية لا تريد تحريره، وإذا ما أفرج عنه قريباً، فذلك لأن الفرنسيين قرروا طي هذه الصفحة ليس أكثر».

الأكثر قراءة