من جديد، اختلطت الأوراق وتضاربت الحسابات في مجلس الوزراء الذي تحول الى ما يشبه «حقل تجارب»، ومسرح للمناورات بـ«الذخيرة الحية»، والكمائن المتبادلة.
وهذه المرة، انقلبت الأدوار والمعادلات على قاعدة «يوم لك.. ويوم عليك»، فربح مشروع وزير العمل شربل نحاس لتصحيح الأجور ـ بحد أدنى يبلغ 868 ألف ليرة ـ مباراة التصويت بـ15صوتا («التفاهم الثلاثي») سجلت في مرمى «ورقة التفاهم» التي أنجزها الرئيس نجيب ميقاتي مع الاتحاد العمالي والهيئات الاقتصادية في إحدى غرف القصر الجمهوري، على قاعدة 675 الف ليرة لبنانية للحد الأدنى، قبل ان تسقط هذه الصيغة بالضربة القاضية في قاعة مجلس الوزراء حين همّ بعرضها، بعدما أيد ممثلو «أمل» و«حزب الله» «والقومي» والوزير مروان شربل طرح شربل نحاس، ليتجرع ميقاتي الكأس المرة ذاتها التي تجرعها «التيار الوطني الحر» في جلسة سابقة عندما فاز اقتراح رئيس الحكومة بالتصويت، قبل ان يطلب مجلس شورى الدولة تصويبه.
وإذا كان قرار مجلس الوزراء يحتمل أكثر من قراءة اقتصادية، في ظل تحذير ميقاتي وأصحاب العمل من تداعياته المالية، وتأكيد نحاس انه يشكل منعطفا نحو إنصاف العمال وتنشيط الاقتصاد، إلا ان الأكيد ان هناك قراءة سياسية واحدة له، وهي ان معادلة جديدة قد وُلدت أمس، ترتكز على بروز «قوة حكومية ضاربة» قوامها وزراء «أمل» و«حزب الله» و«التغيير والإصلاح» و«القومي» الذين قاموا بما يشبه «استعراض القوة» في مجلس الوزراء، وأعادوا صياغة موازين القوى فيه، بما أتاح لفريق 8 آذار في الحكومة استعادة فعالية «الأكثرية» التي بدت أحيانا «هلامية»، وصولا الى النجاح في تحقيق أرجحية حاسمة.
وبهذا المعنى، فإن «الحلف الثلاثي» المتجدد، ترجم أمس «تدريباته» الطويلة خلال الايام الماضية بشكل ملموس، موجها رسالة الى من يهمه الأمر، وخصوصا الى الرئيس ميقاتي فحواها ان تعديلات جوهرية طرأت على «قواعد الاشتباك» في مجلس الوزراء، وأن التناقضات التي أجادت الكتلة الوسطية اللعب على أوتارها سابقا قد تقلصت، بما أفقد هذه الكتلة ورقة رابحة.
واللافت للانتباه أن ما حصل في جلسة مجلس الوزراء أمس جاء غداة اللقاء بين السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون، ما أوحى بأن هناك «ترجمة فورية» لمفاعيل هذا الاجتماع الذي جدد خلايا التحالف الاستراتيجي وآلياته التنسيقبة، متجاوزا رواسب التباينات التكتيكية في المرحلة الأخيرة.
ميقاتي: أحترم النتيجة وأنبه لتداعياتها
من ناحيته، أكد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لـ«السفير» ليلا انه يخضع الى اللعبة الديموقراطية ويحترم نتيجة التصويت في مجلس الوزراء، ولكنه حذر من ان التبعات الاقتصادية لإقرار مشروع الوزير شربل نحاس ستكون كبيرة، وستلحق أذى فادحا بالاقتصاد الوطني، «وعلى كل وزير صوّت لصالح هذا المشروع ان يتحمل مسؤوليته».
وأضاف ميقاتي: لقد توصلت الى بلورة تفاهم بين الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية حول زيادة الأجور، وأبلغت مجلس الوزراء ان معي ورقة اتفاق تحمل تواقيع الطرفين، ولكننا فوجئنا بأن الوزير شربل نحاس يتمسك بطرح مشروعه على التصويت، فكان ما كان.
وتابع: ما حصل واضح في السياسة، وقد وصلتني الرسالة وأنا أتقبلها، عملا باللعبة الديموقراطية. لقد أراد فريق 8 آذار أن يعبر عن تضامنه مع العماد ميشال عون.. أنا أتفهم الاعتبارات السياسية التي تقف خلف هذا الموقف، ولكن على الجميع ان يدركوا ان هذه الاعتبارات ستترك تداعيات اقتصادية فادحة.
وقال: لا مشكلة في ما جرى على المستوى الشخصي، ولكنني كاقتصادي أخشى على البلد الذي سيدفع الثمن، لأن المشروع المُقر سيتسبب بحالة تضخم كبيرة، وسيُحمل الهيئات الاقتصادية أعباء مالية، تقول انها غير قادرة على تحملها، لما يرتبه من معادلات جديدة على مستوى تعويضات نهاية الخدمة وحسابات الضمان ودمج بدل النقل في اساس الراتب.
وعما إذا كان يتوقع ان يرد مجلس شورى الدولة مرسوم نحاس، أجاب: لا أعلم.. ولكن الأكيد ان مجلس الشورى كان قد أوضح في رده السابق ان الدولة لا يجوز لها ان تتدخل إذا اتفق فريقا الإنتاج، أي العمال
وأصحاب العمل، على كيفية احتساب زيادة الأجور، وهذا ما حصل فعلا قبل ان يطرح مشروع نحاس على التصويت.
«التغيير والإصلاح»: انتصر الدستور
في المقابل، أبلغت مصادر وزارية في «تكتل التغيير والاصلاح» «السفير» ان ما حصل في مجلس الوزراء «يشكل انتصارا لمنطق الدستور والقانون من خلال التصويت على مشروع الوزير المختص، وإسقاط قصاصة الورق التي طبخها الرئيس ميقاتي في غرف جانبية مع الاتحاد العمالي والهيئات الاقتصادية، قافزا فوق الأصول الدستورية وصلاحيات وزير العمل وحقه الحصري في اقتراح تصور تصحيح الأجور».
ورأت المصادر ان قرار مجلس الوزراء «هو تدشين لمرحلة جديدة، يجب ان يعتاد جميع الأطراف التعايش معها، وقاعدتها ان هناك أكثرية حقيقية قررت ان تقول انها موجودة وأن تتصرف على هذا الاساس».
وليلا، أصدر وزير العمل شربل نحاس بيانا اعتبر فيه ان الحكومة أنجزت خطوة حاسمة فطوت 16 عاما من الاعتداء على الاجور وحقوق العمّال والموظّفين، وأقرّت تصحيحا بنيويا سيترك آثارا إيجابية كبيرة على الاقتصاد الحقيقي والاوضاع الاجتماعية، مؤكدا ان الصيغة التي اقرّها مجلس الوزراء تراعي مصالح المؤسسات المنتجة.
أصحاب العمل.. والعمال
وفي حين يُتوقع ان ترفض الهيئات الاقتصادية قرار مجلس الوزراء وأن تطعن فيه امام «شورى الدولة»، ابدى رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد شقير اعتراضه على ضم بدل النقل الى الحد الادنى للاجور، وأكد «صعوبة تنفيذ مشروع كهذا»، قائلا: سندعو الهيئات الاقتصادية الى رفضه وعدم تنفيذه، لانه يهدد الاقتصاد في البلد، فيما أبدى رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن دعمه للمشروع، موضحا ان ما من فرق جوهري بين مشروع الاتحاد ومشروع نحاس، إلا في ما يتعلق بضم بدل النقل الى اساس الأجر، على ان يتم البحث في تعليق الإضراب المقرر في 27 الحالي خلال اجتماع يعقده المجلس التنفيذي للاتحاد اليوم، تمهيدا لحسم الموقف في اجتماع لقيادة الاتحاد غدا.
قرار مجلس الوزراء
وكان مجلس الوزراء قد قرر تصحيح الأجور على الشكل الآتي:
اعتباراً من 1/12/2011، يُعين الحد الادنى الرسمي للأجر الشهري بمبلغ 868 ألف ليرة لبنانية ويعين الحد الادنى الرسمي للأجر اليومي بمبلغ 33 الف ليرة، ويتضمن هذا الحد الادنى بدل النقل.
وإعتباراً من تاريخ صدور هذا المرسوم يعتبر بدل النقل اليومي البالغة قيمته شهرياً 236 الف ليرة لبنانية عنصراً فعلياً من الاجر إلى جانب الاجر الذي كان يتقاضاه الاجير بتاريخ 1/12/2011, وتدفع عن كامل هذا الاجر الاشتراكات المتوجبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويدخل في احتساب تعويض نهاية الخدمة.
وتضاف الى الاجر زيادة غلاء معيشة قدرها: 18 % على الشطر منه حتى مبلغ مليون ونصف مليون ليرة لبنانية و10 % على الشطر الثاني منه الذي يزيد على مليون ونصف مليون ليرة لبنانية ولا يتجاوز مليونين ونصف مليون ليرة لبنانية.
تعتبر زيادة غلاء معيشة وتحسم من قيمة الزيادة المنصوص عليها اعلاه الزيادات الرضائية والتي منحت منذ تاريخ 1/1/2011 والتي شملت جميع اجراء المؤسسة من دون استثناء وفي آن واحد، وإذا كانت قيمة هذه الزيادة تفوق قيمة الزيادة المقررة في المادة الثانية من هذا المرسوم، فلا يجوز تخفيضها. اما إذا كانت اقل منها فيستفيد الاجير من الفارق فقط.
وتحدد القيمة الشهرية للمنح المدرسية المنصوص عليها في قانون الضمان الاجتماعي بمبلغ 40 الف ليرة لبنانية عن كل ولد مسجل وحده، والاقصى 160 الف ليرة لبنانية وتلغى سائر المنح المدرسية الاخرى.
نصر الله ـ عون
في هذا الوقت، واصل «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» إجراء عملية الصيانة السياسية لعلاقتهما، بعد اهتزازها مؤخرا، بفعل التباين في تحديد الأولويات. وقد جاء استقبال السيد حسن نصر الله للعماد ميشال عون، ليل أول أمس، بحضور الوزير جبران باسيل والحاج حسين الخليل والحاج وفيق صفا، ليعطي إشارة واضحة الى ان الطرفين مصممان على الدفع في اتجاه ان يستعيد تحالفهما الاستراتيجي نضارته وصلابته. «وقد جرى خلال اللقاء تأكيد أهمية التنسيق الكامل واعتماد آليات فعّالة لذلك خلال المرحلة المقبلة، كما جرى تأكيد متانة التفاهم والتحالف القائم بين الطرفين» حسب البيان الصادر عن الجانبين.
وقالت مصادر المجتمعين لـ«السفير» ان جوا من المصارحة التامة ساد اللقاء، كما هي عادة كل اللقاءات بين نصر الله وعون، موضحة ان النقاش تناول الواقع الداخلي وتطورات الأزمة السورية ومستقبل الوضع في المنطقة، بعد الانسحاب الاميركي من العراق.
وأشارت المصادر الى ان الاجتماع «نجح في إعادة توحيد الأولويات الداخلية وتفعيل آليات التنسيق الثنائي، مشددة على ان نتائجه كانت مثمرة، وأولى طلائعها ظهرت في جلسة مجلس الوزراء أمس. ولفتت الانتباه الى ان الرؤية والأهداف كانت وستبقى مشتركة، ولكن التمايز في اليوميات طغى عليها مؤخرا، وما جرى في اللقاء هو إعادة تثبيت الأولويات التي تتمحور حول بناء الدولة القوية والقادرة والفاعلة، بمؤسساتها وقوانينها وإنتاجيتها واستـجابتها لحاجات الناس وحقوقهم».