«الشيوعي»... غارقاً في الحنين الرمادي

جهاد بزي «خمسة أنفار اجتمعوا في بيت عتيق في بلدة الحدث...»العبارة التي يقولها المربي حسن اسماعيل، عريف احتفال الذكرى السابعة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني في قصر فرساي أمس، تمثل ذروة في الحنين الأحمر.وهو حنين مُحتاج في ذكرى التأسيس، يلفّ المكان الذي غصّ داخله وباحته بالمئات من الشيوعيين وعائلاتهم من أبناء وأحفاد.شيوعيون يتبادلون وداًَ رقيقاً يعود إلى ماضٍ يحنّون إليه، هو مزيجٌ من اعتناق للأيديولوجيا، ومن العلاقات الانسانية التي قامت على المشاركة، كل على طريقته، في محاولة تحقيق الاحلام وفي تلقي الاخفاقات واحدة تلو الاخرى، وفي الاصرار على عدم التخلف عن الذكرى، إما بدافع الامل، وإما بدافع الحنين.والحنين يتسع للجميع في المسرح. من صور أرنستو تشي غيفارا تباع على الفناجين والازرار التي تعلق على القمصان، إلى العبارات الشبيهة بالتي مرت اعلاه، كأن يقول العريف مع كل صعود إلى المسرح، بأن «برقية تهنئة وردت إلى الاحتفال من الحزب الشيوعي اليوناني، وأخرى من البرتغالي ستذيعهما وسائل الاعلام لاحقاً»... الى الكلمات الرخيمة للافتة المرفوعة فوق المنبر، «حزبنا الشيوعي حزب العمال والكادحين والمثقفين الثوريين، حزب الوطن المقاوم، حزب الشباب والمستقبل»... إلى الكلمات الاخرى، على اللافتة الأخرى، والتي يمكن نسبها إلى ستينيات القرن الفائت، أو إلى خيال يبالغ في الجموح، تقول إن «الصرخات الهادرة لعمال وشعوب العالم ضد الرأسمالية وأزماتها تبرز راهنية فكر ماركس».الصراخ الهادر في هذه الأيام لا يلف الكوكب بالطبع، بل هو عربي، وليس ضد الرأسمالية بالضرورة، بل طلباً لأقل الحق في الحرية، لكن هذا نقاش آخر، وليست ذكرى التأسيس مقامه في أي حال.النقاش الذي على الرفاق العودة إليه بعد كل احتفال بذكرى تأسيس، هو في سبب عدم التحلي بفضيلة التواضع. فالخطاب، أي خطاب، حين يكون إلى هذه الدرجة شاملاً وعالي النبرة يلقى في مجموعة من مئات، يتغلب بسرعة على الجاذبية ويطير منفصلاً عن واقعه، ويغرق في تغرّبه، حتى لا يعود مرئياً.هذا بديهي. لكن ثمة إصراراً غير مبرر ولا مفهوم على حشر كل الاشياء في الخطاب الذي تريد قيادة الحزب تظهيره، من اعلان الموقف من الرأسمالية العالمية وأزماتها الراهنة التي لا حل لها الا بالاشتراكية، إلى الموقف المستمر منذ سنوات رمادياً من الازمة اللبنانية المستمرة، إلى الموقف المبهم أيضاً من الازمة السورية حيث لا نقاش في بديهية ان «الإمبرالية» ماضية في مؤامرتها، ليصير المهم هو في كيفية التصدي لهذه المؤامرة. والرمادي بات لوناً نموذجياً للحزب في هروبه المستدام إلى التعميم، وحيث تكون حصيلة الموقف الاوضح للحزب الشيوعي اللبناني، في آخر خطاب أمينه العام الدكتور خالد حدادة، هو العداء المطلق لـ«النيو ليبرالية»، وحيث ان الاستنتاج الوحيد لهذا اليوم، بناء على الزلزال الهائل الحاصل الآن للرأسمالية في العالم، هو سقوط مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، وهو «سقوط» متكرر آلاف المرات، ولا أحد يدري ما الفائدة في تأكيد حدوثه في آخر شارع الحمرا في يوم احد لطيف يجتمع فيه مئات من الشيوعيين لكي يتبادلوا الابتسامات والحنين.لكي لا نقول شيئاً، علينا أن نتحدث في كل شيء. أما الحزب الشيوعي نفسه، وأزماته، واسباب عزوفه شبه التام عن اي حراك، في بلد يغلي بما يفترض أن يدفع الحزب إلى التحرك، إن سياسياً او اقتصادياً أو اجتماعياً... الحزب الذي بات إحياء ذكرى خاصة به سبباً لاحراجه بسبب القلة الكارثية في أعداد الحضور. الحزب الذي يبني كل مجد السنوات السابقة على أنه حافظ على نفسه من دون انقسام. صورة الحزب عن نفسه، وما يريد منها، واقعه كما هو، بلا حنين، وبلا تضخم الذات، كل هذه امور لا يتطرق إليها. الخطاب شبه كوني لم يؤسس لأي نقاش يذكر لدى الذين غادروا القصر على مغنين «مش رح نبقى عبيد»، لتتلقاهم خارجاً، «يا بحرية» مارسيل خليفة، فيستسلمون لها، ولكل ما توقظه في دواخلهم من ذكريات.«خمسة أنفار اجتمعوا في بيت عتيق»... كان ذلك قبل سبعة وثمانين عاماً. ولم يبق الوضع على ما هو عليه. كبر الحزب وكبرت معه تجربة كاملة. اليوم، وبينما الصحوة العربية تبدو حافزاً لهذا الحزب لأن يخرج من حنينه إلى يومه وإلى غده، يصر على التمسك باظفاره وأسنانه بهذا الحنين، غائباً عن أي واقع، حتى يكاد يبدو أنه سيكون في ذروة نشوته، إذا اقتصر الاحتفال المقبل له، في الذكرى الثامنة والثمانين، على خمسة انفار يجتمعون في بيت عتيق.

الأكثر قراءة