سوف تستمر الثورة وسوف يتغيّر العالم

الفضل شلق - السفير

خرج المارد من القمقم. حدثت الثورة العربية. انتفضت الجماهير العربية من دون أن تستشير أحداً ومن دون إذن من أحد. ومن حسن الحظ أنها فعلت ذلك. يُفترض أن تكون الثورة انتفاضة ضد السلطة، سلطة الاستبداد والقهر والسلب والنهب... هذه الجماهير التي قامت بالثورة هي نفسها التي كانت تُضطهد وتُسجن في الوقت الذي كانت قوى الامبريالية وأتباعها من أنظمة النفط العربية ومحطاتها الفضائية تقيم علاقات إيجابية ومميزة مع السلطة المعنية. الامبريالية وأنظمة النفط التابعة لها غيّرت رأيها، وأعلنت خوض صراع مع أنظمة الاستبداد. لكن الجماهير لم تغير رأيها منذ البداية، أي منذ عقود من السنين عندما كانت تئن من الوجع ولا يستمع لها أحد ممن يرفعون راية حقوق الإنسان والديموقراطية والحداثة، إلى آخر المعزوفة. لا بد من التساؤل حول بعض الأمور المتعلقة بالتدخل العربي والأجنبي. لا شك في الأخوة العربية، لكن هناك شكاً كبيراً في ان الأنظمة العربية تتعامل مع بعضها انطلاقاً من هذه الأخوة. هذه الأنظمة جعلت الجامعة العربية نادياً لأنظمة الاستبداد، نادياً لتأكيد التباعد بين البلدان العربية، في وقت كانت الشعوب العربية تطالب بالوحدة. كانت الجامعة العربية خلال تاريخها نادياً للتجزئة مع محاولة دائمة لإرضاء شعوبها وكانت شعوبها عاجزة عن المطالبة بأكثر من هذا التوحّد الشكلي. لكن الجامعة العربية لم تجرؤ يوماً أن تخالف إرادة شعوبها مخالفة وقحة. إلى أن جاءت الثورة، وصارت الجامعة تتلقى وتنفذ الأوامر التي يفرضها عليها المجتمع الدولي، أي الامبراطورية، أي الامبريالية. لماذا انتقلت الجامعة العربية من عهد الخجل والحياء (مع إخفاء كمية كبيرة من الاحتيال على شعوبها) إلى مرحلة الوقاحة في أداء واجباتها تجاه السادة الذين يحكمون العالم؟ تشك الجماهير العربية في النوايا الديموقراطية والغيرة على حقوق الإنسان عند دول نفطية لا تعرف للبشري قيمة إلا بمقدار ما يكون أداة او ضحية يقدمها أمراء وملوك النفط على مذبح التقديس للامبريالية. أما عن سادة العالم الامبرياليين (ودعاة حقوق الإنسان والقانون الدولي) فإن الشعوب العربية يحق لها أن تتساءل: ما الحاجة إلى قرار آخر من الجامعة العربية بخصوص قطر عربي آخر؟ وهل ستكون النتائج كما في القطر العربي الآخر بعد قرار الجامعة العربية التي لم يكن أولياؤها يعلمون أي قرار اتخذوا؟ هل انتظر السادة قرار الأمم المتحدة او مجلس الأمن عندما قرروا دخول العراق؟ أم أنهم دخلوا العراق بعد تلفيق جملة من الأكاذيب قبل ان يكتشف العالم ما هي هذه الأكاذيب وكيف لفّقت. بعد ان دخلوا العراق، نعرف ماذا حدث وهم يعرفون، لكننا لا نعرف ولا هم يقولون متى سوف يخرجون. من دون استئذان أمراء وملوك وبقية أقزام النفط تتساءل الشعوب العربية عن حق السادة الامبرياليين في التدخل في الثورات العربية، سواء أكان التدخل لنصرة الحقوق أم عكس ذلك، فهو مرفوض. لكن التدخل لدعم القمع في قطر، والاستهتار بالثورة في قطر آخر، ومحاصرة قطر عربي غيرهما، والعمل مع الجيوش وأجهزة الأمن لمصادرة الثورة في مكان آخر، كل ذلك يُفهم منه ان التدخل الغربي انتقائي وتلفيقي، الخ... كثير من التعمية لا يخفي حقيقة أن التدخل الامبريالي الغربي لا يهدف إلا إلى شيء واحد: هو تحويل الثورة العربية عن مسارها، تحويل الثورة من صراع بين الجماهير والسلطات، إلى صراع بين السلطات ذاتها، صراع بين ما يسمى دولاً عربية. والأدهى من ذلك تحويل الثورة إلى صراعات اثنية وطائفية لا تنتهي. ربما تعلمت الشعوب شيئاً من تاريخها (خاصة الشعوب العربية في وعيها لتاريخها القريب وتجاربها المرة مع السيطرة الامبريالية والاحتلال الذي لا يزال قائماً، والذي يتوسع ولا يتقلص)، أما الامبريالية فإنها لا تتعلم شيئاً من تاريخها، لا من دروس التاريخ القديم ولا التاريخ الحديث. تعرف الشعوب العربية مكانتها في العالم: موقعها الجغرافي، مواردها الطبيعية، مواردها البشرية، ثقافتها الموروثة، الخ... وهي تعرف أن هذه الثورة تحدث في عالم مأزوم. الأزمة الرأسمالية الراهنة هي انهيار كبير لم يشهد العالم مثيلاً له منذ الربع الأول من القرن العشرين. الولايات المتحدة تتنافس مع أوروبا الغربية في احتدام الأزمة، وكلتاهما قادرة على ان تجر معها دول آسيا الشرقية المتصاعد اقتصادها، بما في ذلك الصين. العالم شديد الترابط. العولمة ليست وليدة أواخر القرن العشرين! العالم معولم منذ القديم. والثورة العربية لا تحدث بمعزل عن هذا العالم. يراد لنا أن يكون الصراع في هذه المنطقة العربية بين الإسلاميين والليبراليين، او بين أنظمة عربية وأنظمة عربية أخرى، يراد لنا ان نظنّ ان الثورة العربية صراع محلي او إقليمي. بمقدار ما تستطيع القوى الامبريالية حصر الصراع في النطاق الإقليمي او المحلي، تزداد ثقة هذه القوى بنفسها وبقدرتها على حل أزمتها وتلافي المزيد من الانهيارات. بمقدار ما تتطور الثورة العربية وتتوسّع وتتعمّق، تفقد الامبريالية الثقة بنفسها وبقدرتها على تقرير مصير العالم. لا نعرف ما هي الايديولوجيا التي سوف ترسو عليها هذه الثورة العربية. كل ايديولوجيا هي تعبير عن برنامج سياسي. ما نعرفه من دارسي تاريخ الثورات أن ايديولوجيا كل ثورة تظهر بعد حصول الثورة لا قبلها. ما من ثورة نتجت عن ايديولوجيا. الايديولوجيات نتجت، خلال التاريخ، عن ثورات. ستقرر هذه الثورة برنامجها السياسي (الايديولوجيا الخاصة بها) بعد القضاء على أنظمة الاستبداد، وبعد القضاء على السيطرة الامبريالية، وما الاستبداد العربي إلا شكل من أشكال السيطرة الامبريالية. حدثت الثورة العربية لأن «الكيل طفح» عند الشعوب العربية. الشعوب العربية تعرف أكثر مما تعرفه أية أمة أخرى. إنها الآن عند منعطف تاريخي في مسيرة العالم. تكون الثورة العربية عالمية الأفق بمقدار ما تستمر من دون قلق على المستقبل ومن دون خوف من المصير. سوف تستمرّ الثورة، وسوف يتغير العالم. وستكون الكلفة كبيرة، لأن كلفة الأزمة العالمية كبيرة.

آخر تعديل على Friday, 02 September 2011 10:05

الأكثر قراءة