قبل الثورات العربيّة، احتلّ المشهدَ السياسي العربي تيّاران ملتبسان: الممانعة، والاعتدال. وهما ملتبسان لأنّ أيّ تمحيص في المنطلقات والممارسات سيظهر تهافت منطق كلّ منهما. ورغم الاختلافات بينهما، فإنّه لا يمكن أحدهما المزايدة على الآخر في مجال الحريات والديموقراطيّة. فالتيّاران ارتبطا وتمثّلا بأنظمة لم يُعرَف عنها احترامها للحريات الفرديّة أو الجماعيّة. اللهمّ إلا إذا كان المطلوب تصديق التسمية التي كانت تطلقها الولايات المتّحدة على حلفائها، فتصفهم بـ«القوى المؤيّدة للديموقراطيّة». في زمن الثورات، أصيب تيّار «الاعتدال العربي» بنكسات، لعلّ أقساها سقوط النظام المصري الذي شكّل، إلى جانب السعوديّة، عصب هذا التيّار ومحور حركته الفاعلة، ولا سيّما في ما يخصّ العلاقات الفلسطينيّة ـــــ الإسرائيليّة. نكبة الممانعة تكمن في مكان آخر. فاهتزاز النظام السوري ليس الضربة الكبرى لهذا التيّار. الضربة الكبرى أصابت، في الواقع، سرديّته لا أنظمته. فلطالما اعتبر الممانعون أنّهم يحملون خطاب الشعوب في مواجهة خطاب الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأنّ أولويّات الشعوب ـــــ بخلاف أنظمتها ـــــ هي أولويّات الممانعة نفسها، أي أولويّات وطنيّة تتعلّق بمواجهة إسرائيل، واستطراداً المشاريع الأميركيّة في المنطقة. أثبتت الثورات العربيّة، شئنا أو أبينا، حقيقة لا يمكن تجاهلها لمن يريد أن ينظر ويرى: أولويّات الشعوب العربيّة ليست في ما يطرحه الممانعون، بل في طلب الحريّة والكرامة والخبز. هذا لا يعني نفوراً شعبياً من الخطاب الممانع، ولا انتصاراً لمنطق الاستسلام لإسرائيل، لكنّه يعني ترتيباً واضحاً للأولويّات. الشعوب العربيّة حسمت أمرها لمواجهة هراوات رجال الأمن، والنهب المنظّم، وتأكيد مشاركتها في القرار السياسي، وهي ليست مستعدّة لوضع هذه المطالب على الرفّ من أجل أيّة قضيّة أخرى. هذه الحقيقة التي ظهرت في شوارع تونس والقاهرة وصنعاء وبنغازي ودرعا... لا يمكن مواجهتها من قبل أنصار الممانعة بالمكابرة أو الانضمام إلى معسكر الثورات المضادّة بحجّة الاكتشاف المتأخّر أنّ فلسطين ليست على جدول أعمال الثورات العربيّة الراهنة. فالعالم العربي يخرج إلى أفق سياسي مفتوح يتّسع للممانعين ولغيرهم، وسيشهد تجاذبات بين تيّارات عديدة ستحاول مصادرة الثورات لحسابها. وفلسطين، للخائفين على فلسطين، لم تفقد أهميّتها لدى الشعوب العربيّة التي تثبت اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أهمّية رابطة العروبة. لكن، هل نستكثر على تلك الشعوب قليلاً من الهواء النظيف حتّى تتمكّن من مواجهة الاستحقاقات الوطنيّة؟ من المفيد قليلاً الالتفات إلى مصر بعد الثورة، والتظاهرات أمام السفارة الإسرائيليّة، وهتافات الزحف إلى القدس... سبق لأحزاب الممانعة أن أقامت حفلة هذيان بعد انتصار الثورة المصريّة، لم ترَ فيها إلا احتمالات سقوط اتفاقيّة كامب دايفيد. وها هي اليوم تدخل في حفلة هذيان أخرى تستعيد أدبيّات «المؤامرة» و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، بعدما اكتشفت أنّ سقوط كامب دايفيد أو عدم سقوطه، خارج الموضوع أصلاً. على الممانعين أن يفكّروا جيّداً قبل أن ينصّبوا أنفسهم بديلاً من الديكتاتوريّات التي هوت، أو تلك التي في طريقها إلى الهاوية. فالديكتاتوريّة، كما عنونت إحدى الصحف الكبرى، ليست هذا الموسم «على الموضة».