جهاد بزي الشابات والشبان الذين كانوا يمشون على طرفي المسيرة، وأمامها، موحين بأنهم يجتهدون في تنظيمها، ما كانوا مضطرين لكل هذا الجهد. النازلون من ساحة ساسين في الاشرفية، إلى وزارة الداخلية، في الصنائع، بالآلاف في العشرين من آذار، المرة الثالثة لتظاهر الشعب ضد النظام الطائفي، ليسوا بحاجة إلى من ينظمهم. أكثر من ذلك، فإن التظاهرة لا «أخ أكبر» لها، يدعو إليها، ويجند لها رجالاً ونسوةً في مهام بالعشرات، كما يبذل مالاً كثيراً ليرتب وصول جماهيره إليه، فيفرح بمشهدهم، ويخطب فيهم ثم يتركهم لحال سبيلهم. هذه حرية مضافة. انعتاق من نوع جديد متقدم على الانضباط في الطريق. الآتون إلى «ساسين»، وقبلها «الدورة»، وقبل ذلك إلى «مار مخايل»، أتوا إلى حراك يريدونه هكذا، بلا الأخ الأكبر، الزعيم، أو الحزب، أو الطائفة. وعدم الالتزام تماماً بتعليمات الذين يطلبون منهم البقاء ضمن المجموعة وعدم الخروج عن خطي حشدها، كان تفصيلاً مهماً في هذا المسير الطويل المتخفف من الأحمال التي ترزح تحتها تحركات جماهيرية أخرى لم تعد ترضى مثلاً بأقل من ثلث العدد الرسمي للشعب اللبناني رقماً للحشود. ولأن منظمي المسيرة ليسوا أصحاب خبرة في ترتيب شؤون حشد كبير كهذا، ذابوا فيه، مذهولين بأن حراكاً ولد قبل أقل من شهرين، نما باطّراد لم يتوقعوه، فاaختلط لديهم شعور الفخر بما ساهموا في صنعه، بالخوف عليه. فمشوا على جانبيه لحمايته من أي طارئ. هكذا، سار الحشد وحده، خفيفاً ومتنوعاً ومنفتحاً وديموقراطياً، وقبل كل هذا، حريصاً بعضه على بعضه الآخر، وبعد كل هذا، سعيداً جداً لأنه أخيراً التقى بمن يتقاسم معه أحلامه وآماله وهواجسه ومطالبه من بلد يحبه بلا ادعاءات جوفاء. وسعيد ايضاً لأنه ليس وحده الذي قرر الخروج من الإحباط الممتد منذ الحرب الاهلية لمن كبر في سنواتها، وما لحقها من أعوام السلم الملتبس، وصولا إلى يأس راح يذهب عميقاً في النفوس من العام 2005 حتى اليوم. هذه المسيرة شعر آلاف بأنهم معنيون بها ومن مختلف الشرائح اللبنانية، من طالبة الجامعة اللبنانية إلى طالب اليسوعية، إلى نواة التظاهرة مما تبقى من طبقة لبنانية وسطى، من كتاب وصحافيين ومحامين وأطباء ومهندسين وأساتذة جامعات وثانويات وموظفين وفنانين، كما من الناشطين المدنيين وحزبيين سابقين أو حاليين من اليساريين الذين قرروا التواضع للمرة الاولى في الألفية الجديدة، والانخراط بلا المناجل والمطارق في حراك «مُرتجل» يخطو خطوات واسعة، غير أن أحداً لا يمكنه التنبؤ بمصيره. «مرتجلو هذا الحراك يمثلون، بشكل أو بآخر، اختصاراً لمكوناته. فيهم أفراد، أستاذ جامعي وصحافي، ومدوّن الكتروني، وناشط مدني، وغيرهم، أسسوا في أوقات متقاربة، ومن دون تنسيق، وتزامناً مع الإلهام الكبير للثورة المصرية، صفحات نقاش مفتوحة على موقع «فايس بوك»، لاقت رواجاً وقبولا من مجهولين يبحثون عن أمل، في بلاد لا آمال فيها. الحماسة الافتراضية ستنسحب حماسة في الاجتماع الأول الذي حضره أكثر من مئة شخص، وهذا بحد ذاته كان مؤشراً جيداً، واكبه هؤلاء بإيجابية. كان على هؤلاء الذين التقوا أن يتخلوا بادئ ذي بدء عن مواقفهم المسبقة الواحد من الآخر. الرفاق اليساريون قرروا ألا ينظروا من فوق إلى مستقل بلا ايديولوجيا. هم يعلمون أن تظاهراتهم المطلبية التي لم تنقطع طوال سنوات، ما زالت هي هي منذ سنوات، تضم العشرات من الصادقين في مطالبهم، المصرين على ما يفعلون، والذين يتبخر جهدهم لأنهم قلة. تيار المجتمع المدني صار على يقين بدوره أنه وحده سيظل على ما هو عليه. المستقلون، وفيهم ناشطون كانوا قد أقلعوا عن الشأن العام، جاؤوا هذه المرة بلا عقد، وبلا خوف من أن يبتلعهم الآخرون، ولأنهم هنا أكثر قدرة على التأثير، صاروا أشد حماسة على الانخراط في العمل. النقاش السياسي بين هؤلاء متشعب بالطبع. اجتماعاتهم تستمر لساعات، والحوار يتحول في أحيان كثيرة إلى صراخ. ليسوا ملائكة بالطبع، وخلافاتهم شخصية أحياناً، في منافسة على حب الظهور أو السلطة لا فرق. هذا يقع في خانة الشوائب التي اذا كان لا بد منها، فمن الواجب الانتباه إليها. غير انهم، في السياسة، واضحون. تحت العنوان الكبير للشعار: «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي». هناك أفكار عدة، تكاد تكون بعدد الناشطين فيها. اليساري فيهم يحكي مثلاً عن أن لا بديل من رفع المطلب الاجتماعي. الجوع والفقر والبطالة. غيره ينادي بالعلمانية، لا شيء دونها. الثالث يطالب بالحقوق المدنية. وأحدهم يريد أن يكون «مواطناً» في دولة المواطنة، حيث الطائفة ليست وسيطه بينه وبين حقوقه.. كل حقوقه. لائحة الاهداف لائحة طويلة لكنها ليست بلا نهاية. هم ما زالوا في بداية هذه التجربة، والوقت لم يسعفهم أصلاً للتفكير ملياً. قرروا التظاهر بعد أول اجتماع، وقاموا بثلاث تظاهرات في وقت قياسي، كما نصبوا خياماً في مناطق متعددة. تظاهرة عشرين آذار، أعطتهم زخماً كبيراً، ورؤوسهم تضج بالافكار. عيونهم على المناطق، ومن المفترض أن يكون مسيرهم المقبل من عمشيت إلى جبيل. لبيروت رمزيتها بالطبع. غير أن لبنان ليس بيروت. كما أن في المناطق اللبنانية من يريد المشاركة في هذا الحراك، والنقليات ترهق ميزانيته. نصب أعينهم ايضاً «البلوكات» المغلقة: مسيرة من الطريق الجديدة إلى حارة حريك، مثلاً. مسيراتهم لا مزاح فيها. بالكيلومترات لعبور الطوائف. بالكليومترات للعبور في قلب 8 و14 آذار، وخارجهما. هم متفقون على أنهم ليسوا قوة ثالثة. ليسوا جمهوراً ثالثاً في وجه جمهورين. هم قوة ثانية، بما أن طرفي آذار المتناقضين في الظاهر، يلتقيان في المضمون. قوة ثانية تنبه مناصري 8 و14 آذار إلى أن النظام الطائفي لا يولد إلا الصراعات، منذ قيام لبنــان الكبير، ومنذ ما قبل ذلك. النظام الطــائفي هو الذي محا بلا أدنى تردد إنجــازين عظيمين على مستوى لبنان، هما التحرير في العام 2000، وإنهاء الوصاية في العام 2005. هذا نظام تضييع الفرص التاريخية. هو نفسه الذي سيجعل من الجمهورين، ومن البــلد، وقود حرب أهلية مقبلة لا شك، كلما أدى هذا النــظام ورمــوزه بالبــلد إلى المأزق، وحين تتلاقى مصالحهم فعلى اللبنانيين. على أنهم يتجنبون ما أمكن الرمال المتحركة، من سلاح المقاومة إلى المحكمة الدولية. يقول بعضهم إنهم لم يبلوروا بعد مواقف من هذه المواضيع. الآخرون يقولون إن النقاش الآن هو على بناء الدولة اللبنانية. النقاط الخلافية «عبارة عن أشراك اذا ما وقعنا فيها لن نعود نقدر على الخروج منها». في العشرين من آذار، وضع هذا الخليط الجميل من الناس، وعددهم، وتفاؤلهم، وفرحهم الجميل بمشهدهم، وكثرة المتظاهرين منهم للمرة الاولى في حيواتهم ربما، وضع هذه الحركة أمام مسؤوليات ومخاوف. لم تعد طفلة بخدين ممتلئين ينحني الساسة لقرصهما بفرح لبراءتها. على الاقل عليهم التوقف عندها، ولو قليلاً. لم تعد مجرد مزحة. وهي قامت بما يعد أصعب الامور: دفعت اليائسين، الذين استسلموا للبنان لا يعنيهم بشيء، مقسوم بين 8 و14 آذار، دفعتهم إلى أن يشعروا أنهم معنيون. وأثبتت أن مقولة اللبناني المستلب الجاهل الذي لا يعرف ما الذي يريده هي مقولة خاطئة. فهو لا يحتاج الى كثير لكي يعلم أن الازمة كبيرة، غير أن مشكلته هي في إيمانه العميق بأنه ضعيف وبأنه عاجز عن التغيير. والحملة لن تُسرق، ما دامت عنيدة في مواجهة رموز النظام. والحملة لن تنفجر من الداخل، ما دام ناسها على هذه الحماسة. هذا، على الاقل، ما يقوله هؤلاء الذين يخوضون تجربة غير مسبوقة لبنانياً، وهم حريصون بما لا يقاس عليها. هذه مسيرة لا تخاف من طريق. تعبر من طائفة إلى طائفة ومن مذهب إلى مذهب، وتؤكد بداهة مطلبها حين ينثر عليها المختلفون في ما بينهم حبات أرز من نوع واحد. «فيها أناس يحلمون وليسوا يمزحون» كما يقول واحد منهم. يقول أيضاً إن طبقة سميكة من الغبار تكدست على رأسه حتى صارت حجراً. أتى العام 2011 ليحف يوماً بعد يوم، في تونس وفي مصر، والآن في هذه الأيام اللبنانية، في الحجر السميك حتى تبدد.. وصعدت الأحلام الكبيرة. الشاب شاعر. عاد يحلم.