أكثـر مـن ألفـي «مواطن ومواطنة» يريدون إسقـاط النظام الطائفي: لـم يردعهـم المطـر.. فحاولـوا العبـور بالوطـن مـن ضفـةٍ إلـى أخـرى

جعفر العطار من حناجر حانقة، غاضبة وسعيدة في آن، كانوا يصرخون: «ثورة ثورة في كل مكان.. جاء دورك يا لبنان». اتفقوا على اللقاء قبالة كنيسة «مار مخايل» في الشياح، ليتوجهوا منها في مسيرة ضمت أكثر من ألفي «مواطن ومواطنة»، إلى قصر العدل، ليقولوا ما يرمون إلى تحقيقه: «نحن مواطنون ومواطنات نتحرك ضد النظام الطائفي ورموزه، وضد الفقر والتهميش، وضد البطالة والهجرة». رفعوا شعاراتهم، ورددوا هتافاتهم المطالبة بدولة علمانية، والعيش الكريم لكل المواطنين. معظمهم لم يكن على معــرفة بالآخر، إلا من خلال شــاشة الكومبيوتر، ولوحــة المفاتيح (keyboard) التي نقــلت عبارات تتــفق، أو تختلــف، مع الآخــر. هــناك، تعرّفوا إلى شركائــهم في ما يطلـبون، فمشوا تحـت زخـات المطر، وبلا طــوائف. لم تأخذهم ثورة تونس ومصر وليــبيا إلى أحــلام كبيرة، فلم يطالبوا بإسـقاط الطاغية. أخذوا من مصر فكرة شبابها «الالكترونية»، وتلمــسوا منها طعــم الانــتصار في تحقيق الحلم. لم يحلموا، بل طــالبوا بما لم يطالب به الجــيل الذي سبقنا، والــذي صــار حلماً، فقرروا كسر جداره أمــس. غنّوا النشيــد المصري في خطــوة المســيرة الأولى، ورددوا النشـيد اللبناني مع الختــام. والقــصة التي بدأت، كــما قالوا، لم تنــته بـعد... ما إن ترجل الشاب العشريني من سيارة الأجرة، عند الجهة المقابلة لكنيسة مار مخايل، حتى رُسمت علامات الأسى على محياه. كانت الساعة الثانية عشرة والربع، فيما كان موعد المسيرة قد حدد عند تمام الثانية عشرة ظهراً. ببصره، جال الشاب، الذي أتى من بيصور للمشاركة في مسيرة إسقاط النظام الطائفي، على مدخل الكنيسة، فرأى سيدة متشحة بالسواد. «لم يصلوا بعد؟»، سألها. يشتد هطول المطر، بغزارة شباط المعروفة. «ثمة مجموعة وصلت، وهي في قاعة الكنيسة. تفضل»، أجابته السيدة، فأردف بنبرة تشوبها الأسى المرسوم على وجهه: «لقد شعرت، منذ الصباح، بأن المطر سيحول دون مجيئهم». وفيما كان يقفل راجعاً، سمع شاباً يهرول صارخاً في حديث على هاتفه الخلوي: «نعم، نعم، دقيقتان وأنضم إلى المسيرة، على الطريق». تغيرت سحنة الشاب، وشرع يركض وراء صاحب المكالمة الهاتفية في شارع صيدا القديمة، فيما رأسه متحرر من المظلة، التي ربما نسي أن يفتحها. كان يركض بين السيارات، مقتفياً أثر «دليله» إلى المسيرة. «ثمة سيارة لقوى الأمن الداخلي. إنني أسمع هتافاتهم، ها هم هنا!»، صرخ الشاب بوجه «الدليل»، قبل أن تتسلل دموعه إلى وجنتيه، وتمتزج مع حبّات المطر، في أثناء انضمامه إلى المسيرة. «ثورة.. ثورة.. ثورة!»، كان يردد، كمن عثر على ضالته، التي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يضلها، بعد حديثه مع السيدة التي ظنّت أنه يسألها عن برنامج الكنيسة. تهطل حبّات المطر بقوة، مع كل دقيقة تمر، بينما أفراد المسيرة يملأون فضاء الصوت برفض النظام الطائفي. لا أجهزة لاسلكية تنقل تعليمات «الأمن» هنا، ولا أسلحة تحمي مسؤولا وصل للتو، ولا سيارات فارهة تركن إلى جانب الطريق ليترجل منها نائب «الزعيم»، ولا أعلام تحاكي انتماء حزب أو تيار. ثمة علم واحد: لبنان، ومظلات تحمي الرؤوس من الأمطار، وشارة علقت على ياقة المنظمين «مواطن منظم». يتردد، بين الحين والآخر، هتاف يحمل مضمون الهتافات الباقية، التي ترمي إلى التعبير عن رفضها للنظام الطائفي، ومطالبتها بما كان مستحيلاً، وصار قابلاً للتفكير به جهاراً بعد قصص كتبتها تونس ومصر وليبيا: الثورة. يقولونها، بصوت موحد، قبل أن «يعزفوا» العبارة الشهيرة من حناجر حانقة: «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام». يمرّ المشاركون في شارع صيدا القديمة، مرددين أكثر من هتاف. ثمة طفلة، لم تبلغ الثلاثة أعوام بعد، تحدّق من فوق كتف والدتها، بالوجوه التي تصادفها. تحاول الأم أن تحمي رأس ابنتها، فتركز المظلة فوق رأسها، وتهتف بأعلى صوتها، أكثر من مرة: «ثورة.. ثورة.. ثورة». تخرج حروف متقطعة، غير واضحة، من فم الفتاة اللوزي الشكل، يُسمع منها حرفا الثاء والواو. يتحول الطرف الأخير من الشارع، إلى مستنقع أفقي فيه مياه موحلة، يصعب الفرار منها، حتى ولو بالالتفاف حولها. يبدو مشهد تخطّي المشاركين بركة المياه، أشبه بمن يجتاز النهر من ضفة إلى أخرى، أو من شاطئ بحر إلى شاطئ آخر. وهم، في اجتيازهم، سعداء: لا يكترثون للبلل الذي يجتاح أقدامهم، ولا للمطر الذي يتساقط على رؤوس بعضهم. كأنهم، في ما يفعلون، يقولون ما خجلوا عن إعلانه جهاراً، خشية من إقحام أنفسهم في لعبة التبجح: «نحن مصرّون على مطالبنا. إننا نعبر من ضفة إلى ضفة، ونريد الخلاص من ضفتكم التي تربينا عليها، ويئسنا منها، لنصل إلى ضفتنا التي حلمنا بها، ولو تحت المطر، وبين الوحل.. مع أطفالنا وشبابنا». تظهر علامات الفرح على وجوهم، من كبارهم إلى صغارهم. ثمة رجل ستيني يهم بالركض بين المشاركين، ليصل إلى مقدمة المسيرة. تترنح قبعته المستديرة مع كل خطوة تسبق الوصول. يصل، ويبدأ بإطلاق هتافات مدوية، سرعان ما يرددها الحشد خلفه: «نريد دولة مدنية. ثورة على الطائفية. ثورة على المحسوبية. ثورة على الاستغلال. ثورة على الزعماء». تتغير، بين الدقيقة والأخرى، وجوه الشبان الذين تناوبوا على الصعود إلى سيارة الـ»بيك أب»، بغية تولي مهمة إطلاق الهتافات. يتناول الناشط في «اتحاد الشباب الديموقراطي» عربي عنداري المظلة من يد مصوّر فوتوغرافي تسلق السيارة، ويثبتها فوق رأس المصوّر، فيما رأسه مكشوف للأمطار الغزيرة. تتنقل سيدة خمسينية بمعطفها الأسود، بين السيارات التي تسير عند الجهة المحاذية للمسيرة في شارع سامي الصلح، وفي إحدى يديها رزمة من الأوراق. تعكف السيدة على توزيع قصاصات الورق على سائقي السيارات، بنشاط يبدو واضحاً من حركة تنقلها، وسرعة توزيعها لما تحمل في يدها السمراء. تتولى زميلة شابة تعمل في إحدى الإذاعات المحلية، مهمة إطلاق الهتافات في مقدمة المسيرة. تحمل الفتاة علم لبنان بيد، وترفع قبضتها باليد الأخرى، قبل أن تصرخ بصوت أنثوي رنّان، والوجه موجه لمن تخاطب: «يلّي قاعد ع البلكون.. انزل ولاقي شعبك هون». يرفع رجل وقف على شرفته، شارة النصر رداً على الهتافات، بينما تجاهل كثيرون ما يسمعون، أو أنهم لم يعرفوا ماذا يقولون أو كيف يعبّرون. يتوقف تساقط المطر عشر دقائق، قبل وصول الحشود إلى قصر العدل، حيث النقطة الأخيرة للمسيرة. وبحركة شبه آلية، تختفي المظلات من فوق الرؤوس، فتتكشف الوجوه فجأة، وبصورة أوضح. فتنتقل التحيات من يد إلى أخرى، وتتطاير القبلات في الهواء، موزعة من هذا أو هذه، إلى ذاك الذي سعد بوجود صديقه، أو صديقته، في المسيرة. يتناقلون السلام، ولو بابتسامة خفيفة، كأنهم في عرس جماعي. ثمة مظلة مرفوعة، يحملها شاب عشريني. يهمس، بصوت يكاد لا يسمع منه ما يقوله بوضوح، لصديقه الذي وقف إلى جانبه حاملاً علم لبنان: «لا تضحك. لكنني لا أريد أن أغلق المظلة، خشية أن تصوّر وجهي عدسة تلفزيون ما، فتعرف جماعتنا أنني كنت هنا. وحينها، يكون يومي الأخير بينهم». يطلق صديقه قهقهة مدوية في الفضاء. تعود السحب لتوزع حباتها على الرؤوس. تستقر المسيرة تحت جسر قصر العدل الشهير. تنتشر حول الجسر دوريات معززة للجيش اللبناني، فيما كان واضحاً وغريباً في آن أنهم لم يكونوا إلى جانب المسيرة، منذ انطلاقها من الكنيسة، خلافاً للمسيرات الشبابية التي كانت تنظم سابقاً، حيث كانت تتقدم المسيرة سيارات معززة للجيش وقوى الأمن الداخلي. يجلس الدكتور في جامعة «البلمند» نواف كبارة إلى كرسيه المتحرك، تحت الجسر، وإلى جانبه رجل أربعيني، اسمه محمد حداد، يستند إلى عكازيه. يقول كبارة انه عرف بالمسيرة من طلابه في الجامعة صباحاً. قالوا له عبارة واحدة: «نحن متوجهون للمشاركة في مسيرة ضد النظام الطائفي». لم يسألهم عن شيء، بل استقل سيارته ولحق بهم، من طرابلس. لا تفارق الابتسامة وجه أستاذ العلوم السياسية، الذي أصيب بحادث سير في العام 1980، فصار مقعداً منذ ذلك الحين. يشرح الدكتور سبب حماسته للمسيرة، خلافاً لبعض الذين خرجوا من قطار الشباب، قائلاً إن «الوضع قد تغير بعد تونس ومصر وليبيا، فالحلم بالتغيير كان مستحيلاً. حبذا لو يشجع الأهالي أولادهم للمشاركة. نحن نطالب بحقوقنا، التي تبدأ مع إلغاء الطائفية في هذا البلد». تتداخل كلمات حداد، الموظف في إحدى البلديات والمصاب بشلل أطفال، مع كلمات النشيد اللبناني، الذي أعلن المنــظمون أنه ختام لمسيرة لن تنتهي. يعبّر الرجل عن سعادته العارمة في المشـاركة، خـصوصاً أنه لم يتوقع أن يكون «العدد بهذا الحجم، نظراً للطقس، وبسبب الانتماءات السياسية المعروفة». تبدأ الحشود بالتفرق بعضها عن بعض بعد ساعتين من السير، متخذة جهات عدة. فمنهم من وقف قبالة مبنى الأمن العام، الذي أطلّت عناصره من شرفاته، ومنهم من وقف ينتظر سيارة تقله باتجاه الدورة أو الأشرفية، ومنهم من مكث يرقص ويزغرد بين من رفضوا العودة قبل مغادرة الجميع. وقفوا يرقصون حتى اللحظات الأخيرة، على أنغام أغان تشرئب لها أعناقهم، ما إن يسمعوا فيها كلمة واحدة: ثورة.

الأكثر قراءة