جعفر العطارالوجوه ذاتها التي توافدت إلى السفارة التونسية بدعوة من تجمعات يسارية متنوعة، منذ أن أشعل بوعزيزي النار في جسده قبل شهر تقريباً، اتفقت على اللقاء قبالة السفارة المصرية، يومي أمس وأمس الأول. لمّا وقف هؤلاء أمام سفارة تونس، كانوا يحملون أحلامهم في قلوب خائفة تراهن على تحقيق العدالة. كانوا يقولون عبارة واحدة «ثورة.. ثورة.. حتى النصر».الوجوه ذاتها التي رفع أصحابها قبضات عالية في الهواء، وأعلاماً حمراء، وشعارات ثورية، انتقلوا إلى سفارة أخرى، كأنهم ينتقلون إلى بلادها: يقولون للشعب المصري الثائر إنهم يقفون إلى جانبهم. يشاركونهم برفض الظلم والفقر. يقولون: «قم يا محمد.. قم با بولس.. بكرة مصر ح تبقى تونس»...الوجوه ذاتها، وقد انضم إليها آخرون، وغاب عنها كثيرون، وقفت تهتف في بيروت لنصرة شعب مصر، تحت المبنى المكلل بالعلم المهيب لجمهورية مصر العربية، في الشارع المقابل للحيّ الشهير الذي استضاف على امتداد سنوات خلال القرن الماضي، الثورة الفلسطينية، قضية العرب المركزية، برموزها وتقلباتها.تحت المطر، تظاهر مؤمنون بالـ«البهية»، بينهم لبنانيون وبينهم مصريون جاؤوا على أمل أن يتمكنوا من المشاركة، ولو من هنا، إخوانهم الذين هناك، الانتفاضة على الظلم.تلك لم تكن دموع فرح.مصباح بدوي، الرجل الثلاثيني الذي وقف يراقب الجموع المحتشدة قبالة مبنى السفارة المصرية، كان يبكي بصمت، وقد وقف إلى جانبه شاب عشريني اسمه محمد سيف. كان مصباح يبدو كمن يصرخ باكياً.قبل ثماني سنوات، تخرّج مصباح من كلية الحقوق في القاهرة. الشاب الأسمر كان يحلم، كبقية زملائه، بأن يفتتح مكتباً للمحاماة. كان يحلم. ولمّا استيقظ من الحلم، التحق بركب أترابه من قرية كفر الشيخ، متوجهاً إلى لبنان.«ثورة.. ثورة حتى النصر، في كل شوارع مصر» يردد المحتشدون بصوت مدوٍّ، لكن مصباح متوجس من «الثورة». يشرح أنه خائف من «اللي بيحصل. فين الأمن؟؟ الرّيس بقول يا أنا يا الفوضى! هوّا بيحرق مصر، ما يفلّ بقى! ما حدّش عايزو! هوّ ما عندوش كرامة ولّا إيه؟!».كُره مصباح للنظام المصري، بكافة رموزه، كسر الحاجز الذي يسكنه ما إن انتفضت الناس في مصر: «لقد تغرّبت عن أهلي بسببهم. تعلّمت، والآن أعمل نقّاش (دهّان). كل ده بسبب طاغية اسمه حسني مبارك»، يتحمس شاب يقف إلى جانبه ويقول مستطرداً «مبارك سينام في خيمة في السعودية، وليس في قصر، لأن بن علي سبقه».تتردد في الأفق شعارات كثيرة، باللكنة المصرية، مطالبةً الرئيس حسني مبارك بالرحيل. الصحافي التونسي منصف بن علي وصل للتوّ، وقد سبقه إدريس المليتي، الذي أصبح «رمزاً» للثورة التونسية في لبنان. علما مصر وتونس يرفرفان في الهواء الطلق، وبينهما صور للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا.أمس الأول، طغت أعداد اللبنانيين على أعداد المصريين، فهؤلاء لم يعرفوا بخبر الاعتصام. أما أمس، فقد كان الحضور الأول والأخير لهم: «ارحل رحل يا عميل.. إنت بعت فلسطين» كانوا يرددون بغضب عارم. المصريون الغاضبون لا يريدون لمبارك أن يرحل فحسب، بل أن يُحاكم على ثلاثين عاماً من «الحكم الظالم الذي تقاسمه مع ابنه جمال ورموز النظام الفاسد. فالرّيس لم يحجب عنا العيش (الخبز) فقط، وإنما باع فلسطين لإسرائيل أيضاً. جعلنا نبكي في منازلنا على أهلنا في غزة» يقول «شحاتة» الذي ثبت على صدره لافتة تقول «بحبك يا مصر».يبدأ الحديث، مع المصريين، بهدوء يروم شرح ما يدور في صدورهم إزاء الأحداث الراهنة، لكن الغضب سرعان ما يمتلك المتحدثين، غبن السنوات الطوال يخرج في لحظات، بكلمات صارخة، حانقة، كانت مدفونة وممنوعة من الخروج إلى العلن خوفاً وظلماً. في مصر، كما في تونس، كما في دول العرب كافة، خوف وظلم ينتظران من يكسر الصمت والتمرد على الطاغية، كل على «طاغيته».بهدوء، يقول محمد، الطالب الجامعي الذي وصل إلى بيروت آتياً من المنصورة قبل شهر، إن «في لبنان توجد حرية تعبير مقابل انعدام وجود الأمن. وفي سوريا، ثمة مستوى مقبول من الأمن والمعيشة، لكن من دون وجود حرية. أما «في مصر، فلا يوجد لا هذا ولا ذاك. والناس سئمت، وملّت، فانتفضت».يُكسر الهدوء، ويخرج محمد عن تحفظه متسائلاً: «المضحك المبكي في الموضوع هو أن نسبة 95 في المئة من ممثلي الشعب هم من الحزب الحاكم، فكيف لهم المطالبة بحقوقنا؟ وأين المليون و200 ألف عنصر من الأمن المركزي؟».يتفق مصباح ومحمد، ومعهما «الحاج الشافعي» المصري المقيم في صيدا منذ أربعة عقود، على أن الفلتان الأمني المترافق مع الانتفاضة الشعبية، مرده أن مبارك نفذ خطة تشبه خطة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي تتمثل في إطلاق سراح المسجونين بتهم خطيرة، وتوجيههم لافتعال أعمال السرقة والشغب، كي تعبّر الناس عن حاجتها للأمن، وبغية الوقوف ضد المحتجين.غير أن الخطة، كما يقول المصريون الثلاثة، لن تؤت ثمارها، لأن المحتجين، والأهالي، كما كل الناس، باتوا على علم ودراية بما يحصل، فشكلوا لجاناً شعبية في الأحياء تعمل على حراسة العمارات والأملاك الخاصة. لقد شكّلوا، وفقاً لتوصيف محمد، «بوليس» شعبياً لقمع التعدّيات «هذه هي مصر» يقول بحماسة متزنة.ترتفع، من بين الحشود، لافتة تحمل صورة لعبد الناصر مصافحاً غيفارا، تدانيها صورة لمبارك مصافحاً نتنياهو. وثمة عبارة تتوسط الصورتان «الفارق.. الكرامة».تنتقل الحشود من أمام السياج الذي وقف خلفه عناصر قوات مدرعة من الأمن، إلى الرصيف المحاذي للشارع العام. يبقى رجل أربعيني واقف ومعه علم كبير يطل منه وجه غيفارا.يحرّك الرجل العلم يمنة ويسرة، بقوة ساعد تشبه ساعد لاعب كرة المضرب، فيما رجال الأمن يسخرون منه ضاحكين. يستكمل الرجل حركته، بقوة أكبر، تزامناً مع ارتفاع دوّي الشعارات الثورية، متجاهلاً ضحكات «الأمن». وبحركة سريعة، يولي الرجل ظهره لهؤلاء، مستكملاً «طقسه» الذي اختاره لنفسه.يقول صديق محمد، وهو شاب تخرّج من كلية الزراعة في القاهرة، إن الفساد في مصر يبدأ من العسكر وينتهي في الزراعة. يستشهد الشاب بحادثة لا ينفك عن استذكارها وقعت قبل عشر سنوات: «لقد زفّ لنا الدكتور في الكلية الزراعية آنذاك عبد السلام جمعة، خبر استنباطه لصنف من أصناف القمح يولّد 270 حبة قمح، فيما السنبلة العادية تولد مئة حبة. كان خبراً خيالياً واكتشافاً رائعاً».وبعدما سجّل الدكتور تفاصيل مشروعه في المراكز المعنية، عرف طلابه أنه توقف عن مهنة التعليم، وصار موظفاً كبيراً في إحدى الوزارات، تزامناً مع «دفن» مشروعه في أدراج الدولة. يعتبر الشاب أن «الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لنا أن نصدّر القمح، بل أن نستورده دائماً. وهي إرادة رموز السلطة في مصر أيضاً، وهذا نموذج زراعي فقط». ملاحظة: متخرج كلية الزراعة يعمل، في لبنان، «نقاشاً» أيضاً، أي «دهّان».يصرخ المتظاهرون، بصوت متقطّع، «الشعب.. يريد.. إسقاط النظام». تختفي السيارات من البقعة المربعة، ويتبين أن القوى الأمنية أحكمت إغلاق المنفذ المؤدي إلى المدينة الرياضية من جهة «الكولا». يهتف المتظاهرون، بشعار آخر: «حسني مبارك يا واطي.. إنت بنيت السدّ الواطي. وعبد الناصر يا عالي.. إنت بنيت السدّ العالي».يقول كل من باسم شيت، وهو من منظمي الاعتصام، ورنا الحركة الناشطة في «اتحاد الشباب الديموقراطي»، إن «الشارع اللبناني لم يكن مستوعباً لثورة تونس في بداياتها، أما الآن فبدا متحمساً لما يحصل في مصر، خصوصاً أن سقوط النظام المصري له تأثير مغاير على كل الشعوب العربية».يحمل إدريس لافتة صغيرة، كُتب عليها بخط محترف «فرحانين، فرحانين. كل ثورة وإحنا دايمن فرحانين. طلاب، وعمال، وفلاحين». كأنما الثورة، التي دفعت الطالب التونسي للبكاء منذ أن أضرم البوعزيزي النار في نفسه، صارت واقعاً تتنقل أماكن الاحتفاء به.عندما انتفض الشعب في تونس، كان إدريس مؤمناً بنجاحها. يقول الشاب ان الثورة في تونس بدأت الآن، وهي العبارة ذاتها التي قالها غيفارا بعدما تحررت كوبا من الطاغية باتيستا.يقول إدريس إن «القضية واحدة: مصر وتونس»، فيعلّق شاب مصري قائلاً: «تتردد عبارة طريفة بيننا اليوم، مفادها أنه لو نجح الثائرون في مصر في طرد مبارك خلال الأيام القليلة، فإننا سنتأهل إلى النهائي مع تونس». يقولها مبتسماً ابتسامة متوجسة، ثم يضيف بجدية حماسية «هم السابقون، ونحن اللاحقون...».