في الواقع الملموس، لم يحصل شيء غير عادي في وزارة الاتصالات أمس، ما عدا شائعات عن قيام الوزير شربل نحّاس بانقلاب في وزارته، ومحاصرة مرافقيه لمكتب المدير العام للاستثمار والصيانة عبد المنعم يوسف! سرعان ما تطوّرت هذه الشائعات بهدف توتير الأجواء، فنشرت بعض وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية التابعة لفريق 14 آذار أخباراً عن اقتحام ميليشيات من حزب الله والتيار الوطني الحر مكتب يوسف وسجنه فيه...
ثم انتقلت هذه الشائعات إلى مستوى آخر أكثر حساسية، إذ تولّى النائب غازي يوسف تلاوة بيان على الهواء مباشرة من منزل رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري ليعلن «إن الإنزال الميليشيوي الذي نفّذه نحّاس على الطبقة الأولى من مبنى وزارته هو إشارة الانطلاق لانقلاب قوى 8 آذار». لكن من صاغ بيان يوسف لم ينجح في إخفاء الهدف الخفي وراء كل ذلك، وهو تهديد الشركات بالويل والثبور في حال فوز أي منها بعملية تلزيم أعمال تجهيز الجيل الثالث في شركتي الخلوي، طالباً منهم عدم توقيع أي عقد مع الوزير المستقيل «تحت طائلة المسؤولية القانونية». ما حصل فعلاً في وزارة الاتصالات أمس هو عكس ما روّجت له هذه الشائعات تماماً. فالوزير نحّاس كان قد أصدر قرارات عدّة قبل استقالة ثلث أعضاء مجلس الوزراء، قضى أحدها بتكليف رئيس مصلحة تنفيذ الاتصالات في الوزارة المهندس غسان ناصر مهمات مدير الاستثمار التابع للمديرية العامّة للصيانة والاستثمار، وهو منصب شاغر منذ سنوات طويلة ويهيمن عليه يوسف نفسه، خلافاً للقانون، بالإضافة إلى مناصبه الأخرى، ولا سيما منصب رئيس هيئة أوجيرو ومديرها العام ومنصب المدير العام للصيانة والاستثمار في الوزارة! حينها، سارع يوسف إلى تسجيل إجازة مرضية انتهت صلاحيتها أمس، مراهناً على كسب الوقت قبل الاضطرار إلى اتخاذ خطوات التمرّد التي قام بها. لكن ناصر كان قد تبلّغ قرار تكليفه وفق الأصول النظامية وانتظر حتى عودة يوسف إلى مزاولة عمله في الوزارة لكي ينتقل إلى غرفة المكتب المخصصة له، بصفته مديراً للاستثمار، في الطبقة الأولى الذي تحتله المديرية التابع لها، فعمد يوسف إلى عرقلة دخوله إلى المكتب المذكور، مدّعياً أن قرار الوزير غير قانوني وأنه لا يحق له تكليف ناصر المهمّة المكلّف إياها، فاضطرّ ناصر إلى دخول هذا المكتب من بابه الخلفي المؤدّي إلى مكتب آخر، وطلب من الشركة الملتزمة أعمال الصيانة في مبنى الوزارة تغيير أقفال البابين الموصلين إليه، فسارع يوسف إلى تهديد الشركة بفسخ عقدها إذا استجابت لمثل هذا الطلب... عندها، لجأ ناصر إلى الوزير وفقاً للأصول، شاكياً ممارسات المدير العام، فأمره الوزير بالاستعانة بنجّار من خارج الوزارة للقيام بأعمال تغيير القفلين، فقام ناصر بذلك وتسلّم المفاتيح الجديدة وانتقل إلى مكتبه على نحو طبيعي. ومنعاً لأي ممارسات تهويلية قد يقوم بها يوسف إزاء الموظفين من مديرية الصيانة، طلب الوزير نحّاس من ناصر دعوة رؤساء المصالح التابعين له إلى اجتماع في مكتبه بحضور الوزير لحثّهم على الالتزام بموجبات العمل والإنتاجية، وهو ما أثار غضب يوسف، فكلّف مدير مكتبه إجراء اتصالات مع عدد كبير من المديرين ورؤساء الوحدات والأقسام والمستخدمين في هيئة أوجيرو ودعوتهم إلى الاعتصام في مكتبه، فلبّى عدد قليل منهم دعوة يوسف وتجمّعوا في بهو مبنى الوزارة (بحسب ما تؤكّده كاميرات المراقبة وإفادة رئيس المخفر المكلف أمن المبنى) ثم انتقلوا إلى مكتبه، وتذرّعوا بعقد اجتماع هناك، قبل أن ينسحب معظمهم بعدما تبيّن لهم أن يوسف يعمد إلى استخدامهم في أعمال لا تمت بصلة إلى وظيفتهم، كما لو أنهم ميليشيا تابعة له. لم يكتف يوسف بهذا الاستعراض، بل ذهب أبعد من ذلك، بوحي من فريقه السياسي ربما، فطلب من جهاز الأمن في أوجيرو إرسال عدد من الحرّاس إلى مكتبه لتطويقه ومنع الدخول أو الخروج منه إلا بإذن منه، وبدأ بتسريب الشائعات عن أن مرافقي الوزير هم الذين يقومون بذلك، إلا أنه لم ينتبه إلى أن هذه الشائعات ستجذب معظم الصحف ووسائل الإعلام إلى مبنى الوزارة حيث تبيّن للصحافيين والإعلاميين بالمشاهدة العيانية المباشرة أن يوسف يحاصر نفسه، أو بمعنى أوضح: يسجن نفسه في مكتبه لدعم شائعاته، وهو ما خلصت إليه بوضوح تام كل المحاضر والتقارير التي أعدّها عناصر الأجهزة الأمنية المختلفة واستخبارات الجيش الموفدين إلى مبنى الوزارة لاستطلاع الوضع ومعالجة أي خلل أمني. إزاء هذا الواقع، أوعز الوزير نحاس إلى دوائر الوزارة المختصة باتخاذ كل الإجراءات العقابية بحق يوسف، وفقاً لما تنص عليه القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، فبدأت بتسطير مذكرة تفرض على يوسف إجازة إدارية لمدّة 5 أيام، فالموظف عبد المنعم يوسف تمرّد على قرارات الوزير، وعمد إلى تهديد موظّفين آخرين إذا نفّذوا هذه القرارات، وعمد كذلك إلى تنظيم تجمّع داخل مبنى الوزارة، واحتل الطبقة الأولى من المبنى عبر استقدام مستخدمين في جهاز أمني خاص أنشأه، خلافاً للقانون، في هيئة أوجيرو، وروّج شائعات تنال من الأمن وتهدد السلامة العامّة، واتصل بوسائل إعلام لتحريضها وبث الأخبار الكاذبة، وأدلى بتصريحات علنية يحظّرها القانون... كل هذه المخالفات أضافها يوسف دفعة واحدة إلى سجّل مخالفاته الطويل، التي بات عدد كبير منها في عهدة التفتيش المركزي والنيابة العامّة المالية، ولا سيما ادعاؤه وجود شركة تدعى «شركة أوجيرو للاتصالات»، وتسجيله أصولاً وممتلكات عائدة لوزارة الاتصالات باسم هذه الشركة، وصولاً إلى سفره مرّات عدّة إلى خارج لبنان من دون إذن، أو طلبه إذناً للسفر لأداء مناسك العمرة، ليتبيّن أنه سافر إلى فرنسا بدلاً من ذلك. ليس هناك أي صعوبة في فهم الأسباب الكامنة وراء افتعال كل ما حصل؛ فالنائب غازي يوسف كان واضحاً بإعلان الهدف، وهو هدف مزدوج، فتحدّث عن بداية «انقلاب قوى 8 آذار» لبث عناصر إضافية للتوتير. لكنه ركّز على شيء آخر يشغل بال البعض ويشعل غيظه ويتعلق بإصرار الوزير نحّاس على إطلاق خدمات الجيل الثالث عبر شبكتي الخلوي. ففي ظل الانقسام السياسي الحاد والقلق الجدّي على السلم الأهلي، هناك من يفكّر في أن توفير خدمات الجيل الثالث عبر وزارة الاتصالات سيحرمه نهب مئات ملايين الدولارات سنوياً من جيوب اللبنانيين والمقيمين، وبالتالي يريد أن يعطّل عملية التلزيم بشتّى الوسائل، مهما كانت كلفة هذا التعطيل. فالوزير نحّاس طلب منذ أشهر عدّة من الشركتين الخاصتين اللتين تتوليان إدارة وتشغيل شبكتي الخلوي المباشرة في الإجراءات الرامية إلى تلزيم عمليات تجهيز الشبكتين لتقديم خدمات الجيل الثالث، وذلك بهدف نقل الخدمات إلى مستوى رفيع وإتاحة المجال أمام خفض أسعار الاتصالات والإنترنت وتضييق فرص إسرائيل في استباحة الأمن الوطني. أصبحت هذه الإجراءات في مراحلها الأخيرة، ومن المتوقع توقيع العقود في غضون أيام قليلة، وهو ما جعل رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري يكثّف ضغوطه التعطيلية، فاتصل يوم السبت الماضي، أثناء بث تلفزيون «الجديد» شريطاً مسجلاً عن اجتماع عقده مع شاهد الزور زهير محمد الصديق في حضور وسام الحسن وغيرهارد ليمان، برئيس الجمهورية ميشال سليمان طالباً تدخّله المباشر لثني نحّاس عن المضي بمشروع الجيل الثالث. ويبدو أن الحريري راهن على استجابة سليمان لطلبه، فسارعت وسائل إعلامه إلى بث ونشر أخبار عن طلب رئيس الجمهورية من نحّاس تعليق المشروع، وهو أمر لم يحصل إطلاقاً، وانتظر الحريري حتى ظهر أمس أن يبادر رئيس الجمهورية إلى تلبية رغباته الشخصية، إلا أن الرئيس سليمان استقبل الوزير نحّاس في قصر بعبدا واستمع إلى شروحه عن قانونية العقود المنوي تلزيمها والإجراءات المتخذة والحاجة الجدّية إلى توفير هذه الخدمات، فلم يطلب سليمان أي شيء من نحّاس، وهو ما علم به الحريري، وفهم من خلاله أنه لا يمتلك أي فرصة لتعطيل المشروع، فبدأت دوائره بترويج الشائعات، حتى لو أدّى ذلك إلى التضحية بموظّف محسوب على رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة. على أي حال، ليست هذه المرّة الأولى التي يظهر فيها فريق الحريري استعداده للتضحية بعبد المنعم يوسف، فقد سبق أن حملت عضو الهيئة المنظمة للاتصالات محاسن عجم رسالة شفهية للوزير نحّاس تنطوي على مقايضة (رفضها نحّاس جملة وتفصيلاً) ترمي إلى استبدال يوسف في مقابل استبدال مدير آخر في وزارة أخرى... كذلك عمد هذا الفريق إلى استخدام يوسف في الكثير من الأعمال التي هدفت إلى النيل من المقاومة، ولا سيما دوره في إعداد التقرير الذي رفعه الوزير السابق النائب مروان حمادة إلى مجلس الوزراء في شأن شبكة اتصالات حزب الله في الخامس من أيار 2008. (الأخبار)
العدد ١٣١٨ الاربعاء ١٩ كانون الثاني ٢٠١١