عندما وقف إدريس مليتي قبل أسبوعين أمام بيت الأمم المتحدة في بيروت، اهتم رجالات الاستخبارات كثيراً بخطابه. لم يعد هؤلاء يحملون أوراقاً وأقلاماً، بل كاميرا رقمية تسجل الأصوات والوجوه والأنفاس. يومها وقف الشاب الثلاثيني في حديقة جبران خليل جبران وخاطب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، قائلاً إن «محمد البوعزيزي استعر ككرة النار وهي تتدحرج من مكان إلى مكان كي تضيء كل مواطن الظلم التي سببتها. لسنا مسلحين ونحن عزّل لا نملك سوى أجسادنا نصارع بها، ونحن قادرون على أن نهدم عرشك يا زين العابدين بن علي».«أنت تحلم»، قال له رفاقه. «زين العابدين لن يذهب بسهولة والمعركة طويلة». لكن الشاب الذي درس في لبنان وبات خبيراً أثرياً ينقب عمّا بقي من تاريخ بيروت الذي دمرته جرافات وسط بيروت، هو أيضاً خبير بشعبه وبرفاقه في تونس.يوم الجمعة الماضي خطّ إدريس لافتة تحمل العلم التونسي وكتب عليها: «خبز حرية كرامة وطنية. يسقط حزب الدستور. يسقط جلاد الشعب. لا بديل إلا الرحيل». حمل الشاب لافتته ووقف وحيداً أمام مكتب قناة الجزيرة في بيروت. كانت الساعة قد قاربت السادسة والنصف بتوقيت بيروت، والأخبار الآتية من تونس صدّقت توقعات إدريس... «زين العابدين بن علي يغادر تونس إلى جهة مجهولة». رقص الشاب فرحاً، حمل لافتته وسار في شارع الحمرا متجهاً إلى مقهى هناك، حيث جلس يتقبل التهانئ من رفاقه وأصدقائه. شرب نخب الانتصار، ولم ينس أن يجري اتصالاً بالسفارة التونسية في بيروت «للشماتة» كما يقول. قصة إدريس مع سفارة بلاده بدأت عندما سرق جواز سفره وجميع ما بحوزته على يد سائق تاكسي في شتوره أثناء توجهه إلى سوريا قبل عام. ورغم تقديمه دعوى على من سرقه، ورغم التحقيقات التي أجرتها معه القوى الأمنية وثبوت تعرضه للسرقة، فإن السفارة التونسية في الحازمية رفضت، كما قال لـ«الأخبار»، أن تسلمه جواز سفر جديداً.لكن اتصال إدريس الأهم كان مع أمه. بكى الشاب طويلاً عندما سمع صوتها. «يعيشك يمّا» قالها بصوت مرتجف مبلل بدموع ذرفها الشاب الذي لم ير عائلته منذ سنوات. «إحنا شو يللي خلانا بعاد يمّا غير هذا الطاغية؟ يلي في فرنسا ويلي في إيطاليا ويلي في لبنان. بس إحنا راجعين يمّا. مشتاق لحضنك يمّا. مشتاق أضمك أركع تحت رجليك»، يقول إدريس قبل أن يسال عن شقيقه المعتقل منذ أسبوع بعدما رفض الالتحاق بعمله في قطاع النقل؛ لأن وزارة الداخلية استخدمت الحافلات المخصصة لنقل الركاب لنقل عناصر قمع الشغب. هؤلاء الذين لاحقوا الشباب التونسي في كل مكان. عاد شقيقه إلى البيت وكذلك والده، لكن العائلة المنتمية إلى حزب العمال الشيوعي التونسي المحظور، والمشتتة في أصقاع الأرض لم يلتئم شملها بعد.أمس وقف إدريس إلى جانب عشرات اللبنانيين والتونسيين أمام بيت الأمم المتحدة في بيروت. كان مقرراً أن يتجهوا إلى سفارة تونس في الحازمية، لكنهم اكتفوا باعتصام هنا، معلنين أنهم سيتوجهون إلى السفارة في ٢٦ كانون الثاني الجاري.الاعتصام الذي دعت إليه «لجنة التضامن مع انتفاضة الشعب في تونس ـــــ لبنان» كان للاحتفال «بانتصار الثورة التونسية وسقوط الطاغية زين العابدين بن علي». رفع المعتصمون في بيروت العلم التونسي ورددوا هتافات منددة بالرئيس المخلوع، وأنشدوا كذلك قصيدة أبو القاسمي الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر».هناك حمل إدريس لافتته وصرخ بأعلى صوته مندداً بالأنظمة العربية المتحالفة مع بن علي. كلماته الغاضبة طاولت الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز الذي استقبل الرئيس المخلوع، والرئيس الليبي معمر القذافي «المتحالف مع بن علي، والذي فتح الحدود لزبانيته الفاسدة».قدم مليتي لائحة مطالب باسم الشباب التونسي، أهمها تحويل نظام الحكم في تونس إلى برلماني، والحد من صلاحيات الرئيس، وحل البرلمان بشقيه مجلس النواب ومجلس المستشارين، وتأليف لجان من مختلف الفئات للتشاور في دستور جديد للبلاد يكون فيه الاستفتاء قانوناً أساسياً في المسائل المصيرية، وحل حزب التجمع الدستوري الديموقراطي الذي فقد شرعيته التاريخية والدستورية ومحاسبة كل أفراده الذين تثبت التحقيقات تورطهم في قتل الشعب ونهبه وسرقة أمواله. كذلك طالب مليتي بسحب كل الدبلوماسيين في الخارج، الذين يمثلون النظام السابق»، كما قال.منصف بن علي، شاب تونسي آخر تحدث باسم اللجنة الوطنية للوحدة والعمل في تونس، فشكر كل الذين يقفون مع الشعب التونسي، مؤكداً «أن الثورة التونسية لم تنته بعد، فبعد هرب بن علي إلى أحضان الحكم الملكي السعودي، تحاول عصاباته ترهيب المواطنين وتحاول فرض أمر واقع يسعى إلى ضرب ثورة الشعب التونسي. لقد أُلِّفت اللجان الشعبية في الأحياء للدفاع عن الناس، ومحمد الغنوشي وحاشية بن علي ما زالا يحاولان الاستيلاء على السلطة». أضاف: «معركة الدفاع عن الثورة بدأت اليوم، ودعماً للثورة ودفاعاً عنها نحن نقف هنا اليوم وسنجدد وقفاتنا التضامنية في الأيام القادمة». وختم: «هذه الثورة انطلقت من القاعدة وحاضنتها الكبيرة المنظمة التاريخية في تونس وهو الاتحاد العام للشغل، واللجنة الوطنية للوحدة والعمل وهذه الثورة ستتواصل إلى أن تصل إلى أهدافها التي حددها الشعب ولم يحددها القادة ولا الأحزاب».كلمة المنظمات اليسارية اللبنانية ألقاها عمر الذيب الذي رأى «أن ما حصل في تونس هو درس، وأن النضال النقابي والطلابي ليس ترفاً يمارسه بعض أزلام السلطة، بل هو واجب نضالي يستوجب التضحيات بوجه قوى السلطة لتحقيق المكاسب في السياسة كما في الاقتصاد والمجتمع».تابع: «نريد من محطتنا التضامنية مع تونس اليوم أن تكون أيضاً وقفة تضامنية مع أنفسنا ودعوة للتحرك في الشارع من أجل حقوقنا الأقتصادية، من أجل ربطة الخبز والمواد الغذائية المدعومة وأسعار المحروقات، من أجل حقوقنا في التعليم والصحة والضمان، من أجل وقف الهجرة وحقنا في العمل في وطننا». ودعا الذيب إلى المشاركة في مسيرة «دافع عن لقمة عيشك» التي ينظمها اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني الأحد في ٣٠ كانون الثاني الحالي وتنطلق من الكولا حتى السرايا الحكومية.
العدد ١٣١٦ الاثنين ١٧ كانون الثاني ٢٠١١