قصّة حكم بن علي: «مافيا عائليّة» وقمع وفساد

من تظاهرات سيدي بوزيد (فتحي بلعيد- أ ف ب) وصفت وثائق وزارة الخارجية الأميركية، التي نشرها موقع «ويكيليكس»، نظام الحكم والمحيط العائلي للرئيس التونسي زين العابدين بن علي بأنه أشبه بالمافيا. الجنرال بن علي، الذي يواجه اليوم انتفاضة شعبية، قام حكمه منذ سنة 1987 على الشرطة والفساد، الذي أظهرت تقارير دولية أنه يزداد سوءاً، إذ إن البلاد تحتل المرتبة الـ61 في مقياس الفساد في العالم

بشير البكر في الرابع من كانون الثاني سنة 1984، استفاقت تونس على هبّة شعبية كبيرة عُرفت باسم «انتفاضة الخبز». حينها شملت التحركات الاحتجاجية معظم المدن التونسية، وخلّفت أضراراً فادحة في الممتلكات العامة والخاصة، كاشفةً عن هشاشة فادحة في الموقفين الأمني والسياسي، إذ إن الانتفاضة استمرت أياماً عدة، في ظل غياب تام للسلطة والمعارضة.

لم يجد الرئيس، حينها، الحبيب بورقيبة، إلا عزل وزير الداخلية إدريس قيقة سبيلاً لاحتواء الموقف، والتراجع عن قرار رفع الدعم عن المواد الأولية، الذي اتخذته حكومة محمد مزالي، متجاهلاً المغزى السياسي للمسألة.ومن بين القرارات التي اتخذها بورقيبة لمعالجة تداعيات الوضع الجديد، استدعاء سفيره في بولونيا الجنرال زين العابدين بن علي، وتعيينه في منصب مدير الأمن الوطني، الذي سبق له أن شغله لفترة قصيرة سنة 1978 خلال أحداث قفصة في الجنوب التونسي. وكان واضحاً أنّ المهمة الأساسية المناطة ببن علي هي امتصاص آثار «انتفاضة الخبز»، لذا كان حذراً جداً من تكرار فشله في مواجهة أحداث قفصة.بدا المشهد واضحاً أمام بن علي، فالهبّة الجماهيرية بدأت عفوية بسبب رفع الدعم عن المواد الأولية، لكنّ المعارضة النقابية والإسلامية والقومية حاولت ركوب الموجة، وسارعت إلى استثمار الانتفاضة لإحداث تغيير شامل، وطرحت للمرة الأولى نقاشاً مفتوحاً بشأن أهلية استمرار بورقيبة رئيساً مدى الحياة، ولا سيما أن «محرر تونس وباني نهضتها الحديثة»، كما كانت تلقّبه الأدبيات الرسمية، قد دخل في مرحلة خريف العمر، وغلبت على قراراته أعراض الشيخوخة.وكان 1985 عاماً مفصلياً في تاريخ تونس البورقيبية، حين بدأ بن علي يرسم الطريق لمساره الطويل، مستهلّاً بالهجوم على المعارضة، التي شرع بتوجيه ضربة إلى رأسها، الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل الحبيب عاشور، واقتياده إلى السجن. ولفتت هذه الخطوة الأوساط كلها، لأن بن علي تجرأ على الرجل الذي كان يحسب حسابه حتى من طرف بورقيبة نفسه، إذ إن التونسيين كانوا يقولون إن البلاد متوازنة بالحبيبين، الحبيب بورقيبة والحبيب عاشور، فكل منهما يمثّل قطباً وزعامة ذات نفوذ ومرجعيات. الأول مثّل تونس الحديثة، التي كان هواها العام يميل إلى الانفتاح على الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بينما الثاني كان رمز الطبقة العاملة، التي تمثّل العمود الفقري للاقتصاد.تكمن قوة عاشور في أنه أحد أعلام الاستقلال، والقطب الرئيسي لاتحاد العام التونسي للشغل، الذي برهن على حضوره ونفوذه من خلال جملة من المواجهات مع بورقيبة. وتمكّن عاشور مرات عدة من ليّ ذراع «المجاهد الأكبر»، ليضفي على العمل النقابي صبغة سياسية، ويفرض زعامته ليس بين النقابيين فقط، بل في تونس ككل. وكثيراً ما كان يجري النظر إلى هذا الحضور كوريث شرعي وبديل للمرحلة البورقيبية، التي كانت قد بدأت تستهلك نفسها، ولم تبرز من بين صفوفها وجوه جديدة قادرة على تجديد دمها، ذلك أن بورقيبة لم يترك فرصة لشخصية سياسية يمكنها أن تخلفه، وحرق مجايليه وخلفاءه المحتملين واحداً بعد الآخر، من أمثال صالح بن يوسف وأحمد بن صالح وأحمد المستيري.وبعدما سجن بن علي الحبيب عاشور وشق الاتحاد التونسي للشغل، اتّجه نحو المعارضة الإسلامية، ممثّلة بحركة النهضة التي كانت في أوج صعودها، فاتهمها بالإرهاب والقيام بتفجيرات ضد مقارّ الحزب الحاكم (الحزب الدستوري).وكان ذلك ذريعة لفتح معركة مع التيار الإسلامي ككل، فوجد الفرصة سانحة ليكيل له ضربة قاصمة، بدأت بسجن قادته البارزين، أمثال علي العريض وعبد الفتاح مورو وصالح كركر والحبيب المكني، الذين انضموا الى زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي كان قد اعتُقل سنة 1981، وحُكم عليه بالسجن لمدة 11 عاماً.لم تسلم المعارضة القومية واليسارية من سطوة بن علي، الذي رأى فيها رافداً من روافد الاتحاد التونسي للشغل في الأوساط الطالبية وهيئات حقوق الإنسان والتجمعات الثقافية. وأتاح ضرب هذا الوسط الديناميكي الفرصة لبن علي لإحكام قبضته على الجامعات في صورة رئيسية، لكونها كانت تمثّل خزان الاحتجاج ورصيد المعارضة السياسية.في السابع من تشرين الثاني سنة 1987، خرج بن علي من ظل بورقيبة، وأطل من على شاشة التلفزيون بشعره المصفّف بعناية والمضمّخ بالزيت والمصبوغ لإخفاء بعض شعيرات الشيب التي بدأت بالظهور على سالفيه. في تلك الليلة قرر بن علي أن يقصي والده الروحي، كما كان يسمّيه، مستنداً إلى بند دستوري يجيز إعفاء الرئيس بسبب «العجز عن الحكم»، في ما سمي حينها «الانقلاب الطبّي».وفي اليوم التالي، حفلت الصحف الفرنسية بتسريبات تتحدث عن انقلاب خاطف، قطع الطريق على انقلاب آخر كانت تُعدّ له حرم بورقيبة، الماجدة وسيلة، التي كانت تعمل على إعداد شخصية أخرى كخليفة لزوجها، وهي اختارت خصم بن علي، الوزير محمد الصياح. وكشفت ابنة شقيقة بورقيبة، سعيدة ساسي، أنّ خالها كان ينوي إقالة بن علي واستبداله بالصياح.ومن المفارقات الغريبة أنّ انقلاب بن علي لقي ارتياحاًَ لسببين: الأول أنه وضع حداً للصراع على السلطة بين عدة أجنحة من داخل القصر وخارجه، وسط تقاطعات إقليمية ودولية، والثاني أنّ بن علي قام بخطوة انفتاح تمثّلت في الإفراج عن زعماء المعارضة النقابية والإسلامية، الذين سبق له أن أودعهم السجن، وفي مقدمتهم الحبيب عاشور والغنوشي، وأتبع ذلك بسلسلة من الانفراجات في إطار أسس دولة القانون، إذ ألغى نظام التوقيف الاحتياطي للأشخاص، وحدده بأربعة أيام فقط، وحلّ محكمة أمن الدولة التي حاكمت أعضاء الحركات الإسلامية التونسية، وأصدر مرسوماً يلغي التعذيب «رسمياً»، وسمح بتأسيس فرع لمنظمة العفوالدولية. هذه، وغيرها من الإجراءات، ساعدت على انضمام كثير من مثقفي تونس وأكاديميّيها إلى مؤيدي بن علي، بل نُقل عن راشد الغنوشي قوله «أثق بالله وببن علي».وفي فترة قصيرة أطلق النظام سراح ما يقرب من 2400 سجين سياسي، كان الرئيس الجديد قد اعتقلهم أصلاً عندما كان مسؤولاً في النظامالسابق. لكن الربيع التونسي لم يدم طويلاً، وسرعان ما ظهرت ملامح دولة جديدة تتأسس على القمع الأمني والفساد، وتفشّى في الشارع الحديث عن التجاوزات واستغلال النفوذ ونهب المال العام، وجلّها ينسب إلى عائلة بن علي وزوجته ليلى، وبات شقيق بن علي، منصف، حديث الصحافة، واشتهر بتجارة المخدرات، ولاحقه القضاء الفرنسي وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.أما عائلة زوجته (الطرابلسي)، فصار لها موطئ قدم في الأعمال، من السياحة إلى الزراعة مروراً بالعقارات وتوزيع المحروقات وكذلك البناء. وركّزت إحدى وثائق «ويكيليكس»، الصادرة بتاريخ 23 حزيران عام 2008، التي كتبها السفير الأميركي روبرت جوديك، على زوجة الرئيس ليلى بن علي، حيث يرى التونسيون أنها تنتهك النظام انتهاكاً صارخاً، ما يجعلها مكروهة.ويعدّ شقيق ليلى، بلحسن طرابلسي، الأكثر فساداً وتورطاً في مشاريع فاسدة، والأكثر ابتزازاً للحصول على الرشى. وتعطي الوثيقة مثلاً بحصول ليلى بن علي على أرض في قرطاج بقيمة 1.5 مليون دولار أميركي لتشييد مدرسة قرطاج الدولية، إلّا أن النتيجة كانت أن باعت ليلى المدرسة لمستثمرين بلجيكيين. وتضيف الوثيقة إنه في عام 2006، سرق معاذ وعماد الطرابلسي يختاً لرجل الأعمال الفرنسي برونو روجيه. ويحفل كتاب الصحافيين الفرنسسيين نيكولا بو وجان بيير توكوا «صديقنا بن علي» بسلسلة من الأحداث ذات المغزى، ومنها على سبيل المثال قصة مروان بن زينب، الطالب اللامع المهتم بالمعلوماتية الذي توفي في «حادث سير» بعدما أسرّ لأقربائه بأنه حين تمكّن من اختراق النظام المعلوماتي الإلكتروني لقصر قرطاج «وجد قائمة بعملاء الاستخبارات الإسرائيلية الموساد، المعتمدين رسمياً في تونس لمراقبة القيادة الفلسطينية».

ليلى رئيسة!

الوجه الآخر للملهاة التونسية يكمن في قضية الرئاسة. فالدستور يجيز للرئيس ولايتين رئاسيّتيين متتاليتين، مدة كل منهما خمس سنوات، وبالتالي كان على بن علي أن يرحل في سنة 1997، لكنه أجرى تعديلاً يجيز له ولاية ثالثة انتهت في سنة 2002. ومن ذلك الحين كرّت سبحة التعديلات الدستورية، التي مدّدت لبن علي حتى سنة 2014. بعد هذا التاريخ سيكون على الرئيس التونسي تعديل الدستور مرة أخرى، إذا رغب في ولاية رئاسية جديدة، لأن سنّه ستكون قد تجاوزت سقف الدستور بسنة واحدة. لا أحد يستطيع التكهن، فقد يُفصّل بن علي الدستور على مقاسه مرةً أخرى، أو أنه سيفسح الطريق لزوجته كي تخلفه، كما تتحدث الأوساط التونسية. فليلى الطرابلسي (الصورة)، صاحبة صالون الحلاقة حتى سنة 1992 قبل أن تقترن ببن علي كزوجة ثانية، تدربت على شؤون الحكم، إلى حد أنها تلقي الخطابات نيابةً عن الرئيس.

الأكثر قراءة